أخبرتني أنها تسكن خلف الفندق الكبير المضاء بشتى الألوان طوال اليوم .. قالت إنه فندق كبير وفخم افتتح مؤخرا ولا تنطفئ فيه الكهرباء ليلا أو نهارا، قد حجب الضوء عما حوله لمسافة كبيرة بسبب حجمه.
خلف الفندق تناثرت "عشش" المهمشين على ضفاف السائلة الكبيرة، وبيوت قامت في منطقة كانت وادي مليء بحقول الزرع.
يتجاور الفقر المدقع والغنى الفاحش في واقع نشاز يثير الدهشة والغرابة، تماما كما تجاور الإنسان والحيوان لحقب سابقة في نفس المكان.
حدثتني عن سيارات فارهة تقف في طابور طويل أمام الفندق الفاخر ينزل منها رجال بربطات عنق أحيانا وعائلات ثياب أطفالها تشع نظافة ووجوههم لم تحرقها الشمس.
مناظر لا تسر الفقراء في الزوايا الخلفية دون كهرباء أو ماء أو أدنى متطلبات الغذاء. لكنها تغري أطفال المهمشين والفقراء بمد أيديهم للتسول؛ ويغري آخرين بمسح السيارات الفارهة بماء نظيف يصلح للشرب.
الحرب أفرزت هذا التباين القبيح في مجتمعاتنا: فئة قليلة يرتفع سقف رفاهيتها على حساب الغالبية المسحوقة. وفيما يعتاش البعض على فتات السلال الغذائية، تتراكم أرصدة المنتفعين من الأزمات المختلقة.
لم تعد الحرب سوى متاجرة بأرواح الفقراء، سواء أولئك الذين يذهبون للجبهات كي يُقتلوا، أم أولئك الذين يبقون على قيد الفقر والجوع والحاجة تحت مسمى أنهم أحياء.
يطفو على ركام الخراب جماعة أغنياء الحروب؛ ما بين تجار أرواح، ومتاجرين بأوجاع الناس، أو تجار غذاء ودواء وأسواق سوداء.
لقد وهبت الحرب للفقراء أرامل وأيتام كثيرون، لكنها في المقابل أعطت تجار الحروب عقارات وأرصدة باذخة، وقد كانوا قبل الحرب يوصمون بالفقر.
إب المكتظة بالزحام البشري، تكتظ بكل أنواع العلل الصامتة. هذا التباين في حال الناس أحد عللها، رغم أن الفقر المدقع يبدو أخفها وهجاً. هناك القتل اليومي كوجبة رئيسية.
هي مدينة تعجّ بالسلاح محمّلاً على الظهور الضامرة. في كل ركن فيها ينتصب رشاش على ظهر جثة متحركة .. لا يمر يوم إلا ويسقط قتيل أو قتيلين ولو مزاحا بالسلاح. لقد سقطت هيبة الموت أرضاً، حين صار الموت هو الأقرب.
جرائم سطو في عزّ الظهيرة، تقطع، وسرقة تنتهي بالقتل ..! حتى أعراسها يجب أن تنتهي بسقوط قتيل على إثر راجع الرصاص؛ لقد سبق أن أحتفى أحدهم بقنبلة !!!
كل سلاح لا يصنع الأمان؛ لا يدافع عن حق، ولا يحمي الضعيف؛ ليس سوى ظلم وبطش.
فرض الجبايات على كل شيء، أمر يثير الفزع؛ نهب على أوسع نطاق حتى ماء الشرب ينهب.
إب مدينة معتلة بالمرض، تفشى فيها الورم وسينفجر في أي لحظة، والعدة تقام على قدم وساق لإعلانها مدينة ميتة بعد مرض طويل وعضال.
إب مدينة تتقبل هذا الحال السيء، وترفض كل دعاوى التحرير لأنها ضلال مبين. فكل المدن المحررة تعيش حال اسوأ.
لكن الفقر أشد وطأة من الموت. نحن بحاجة إلى مبادرة ممن يطلق عليهم "الناشطين". مبادرة ضد هذا الغلاء الفاحش في أسعار الغذاء والضروريات. مبادرة لا تشمل طلب فتات الأغنياء من أجل إذلال الفقراء. بل حركة مجتمعية لرفض الزيادة المطردة في الأسعار.
الصمت يقابله ازدياد، ولم تعد تنطلي على الناس أعذار الجمارك والمستحقات على التجار وارتفاع الدولار .. ! هناك نهم للاغتناء على حساب الفقراء أيضا.
إنها حمى الحرب التي تجعلهم لا يلتفتون لمن هو أدنى منهم، فتتبدد الرحمة والإنسانية، لتتسع الهوة بين فقراء الحروب وأغنيائها، لتسقط فيها الأخلاق كأول الضحايا.
اقراء أيضاً
عمل المرأة بين الحرية والاضطرار
اليمنيون بين قصفين
مستقبل اليمن في إحياء القومية