دعوني أطلعكم على دراسة مثيرة، نشرتها صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، تقول الدراسة: أن الغربان حين يجدون أحدهم ميتاً، يتجمعون حوله، ويدخلون في حالة من الصراخ العشوائي، دون أن يقوم أحدهم بلمس الجثة؛ وهي الطريقة التي تعبّر بها عن الشعور بالخطر والحزن.
يبدو أن معلّم الإنسان الأول – الغراب – بعد أول جريمة قتل في تاريخ البشرية، لم تتوقف سلسلة ارتباطه بتكوين الإنسان المشاعري؛ إذ من الواضح جداً، أن البشر يكتسبون من محيطهم الحي ما يلاءم طبيعتهم للتكيف والتعبير عن ما يحدث ضمنياً في حياتهم اليومية...
فظاهرة "عزاء الغربان"، لا تبعد كثيراً عن ظاهرة بشرية مشابهة محصورة بالقومية العربية في تركيبها التكويني ذي العاطفة الطاغية في إطار التعامل مع مواقف وأحداث بعينها؛ تعبيراً عن الحزن والتعاطف والخطر.. فالعرب، أقوامٌ عاطفيون، يدفعون فاتورة معاناتهم بما تجنيه ألسنتهم الغير محكمة بالعقل، فالعاطفة هي المسيطرة، والمعبرة عن التوجهات برمتها!
" عزاء العُربان"، ظاهرة فريدة، تعبر عن طبيعة التوجه العربي في التعامل مع ما يحدث في بلدانهم من أحداث جسيمة، تُزهق فيها الأنفس، وتُراق الدماء، وتُدمر المدن، ويُشرد ساكنوها، وتُصادر قراراتٌ سيادية، وتحاك الخطط الدفينة؛ لإحداث تغييرات ديموغرافية، وتحويرات مفصلية في مسار قضايا مصيرية، ويكتفي العرب بالصراخ العشوائي؛ تيمناً بالغربان حين يعبرون عن شعورهم بالخطر والحزن!
بيانات الشجب والتنديد، الدعوات لعقد قمم عربية وإسلامية عاجلة، الدعوة لجلسات طارئة في مجلسي الأمن وحقوق الإنسان، المظاهرات والمسيرات المحشودة والمدفوعة، كلها وسائل علنية للصراخ العشوائي، الذي لا يتجاوز على مستوى الفاعلية مدى التسكين المؤقت، ثم ينتهي بانتهاء وقته المحدد.
في قضية فلسطين، سادت هذه الظاهرة حقب التعبير عن الحزن تجاه ما يجري، وعند الفعل انقسم العرب؛ فمنهم من واجه فعلياً وانتكس كمصر وسوريا والأردن، ومنهم من دعم مادياً ولوجستياً كجزائر بومدين، ومنهم من اكتفى بالمشاهدة والصراخ العشوائي، ومع مرور الزمن، وتواتر العدوان الإسرائيلي، وتفاقم مجازره الوحشية بحق الفلسطينيين، اتجه العرب جميعاً للانخراط ضمن ظاهرة " عزاء العُربان"، القمم العاجلة الفاشلة، صراخ، وعويل، وشجب، وتنديد، ووعيد لا يتجاوز قاعة القمة، والجلسات الأممية الطارئة الموءودة من فيتو أمريكا حيناً، وروسيا حيناً، والصين أيضا، ويظل العرب على حالتهم الأولى، يعتليهم الحزن، ويتهددهم الخطر، وتعتريهم التفرقة الجسيمة التي تؤكد استمرارهم فيما وجدوا أنفسهم عليه، وتلك أساطير الأولين!
كما لا يمكن غض الطرف عن أحداث تاريخية مرت بها الأمة العربية، من صراع مع لاعبين إقليميين، وعراك داخلي بين فرقاء الرأي والمصالح من دولة لأخرى، فالعراق واجه إيران، ثم عاد لاحتلال الكويت، وما بين الحالتين، كان بقية العرب شاذين في مواقفهم البينية، وملاحظات البلدان المتجاورة عن حدودهما، التي تصل إلى مراحل متقدمة من التصعيد.. عادوا لطبيعتهم الأولى؛ الرأي المنحوس، والطبقية المتعفنة، والإستقواء السلالي، والتعبئة المالية، وتبعية المصالح.. فَعَلَ العرب كل هذا، على حساب شعوبهم وأوطانهم، فيما لم يتجرأ الغربان على نقض نظامهم المستديم في مملكتهم السوداء: قاضٍ لفض النزاعات البينية، والاحتكام إليه للفصل عند المشاجرة، إضافة لذلك، الترابط الاجتماعي المتين لفصيلة مغمورة من الطيور، لا تزال مثار جدل حتى اللحظة فيما يتعلق بتكويناتها الداخلية، وانصياعها لضوابط ولوائح متعارف عليها بينها البين.
ليس من المنصف أن يظل العرب مرهونين لسوابقهم؛ متغنين بخوارق الرماح، ولوامع السيوف، وكان أبي.. وليس من العدل أن تتوارث الأجيال العربية طبائع الاستعباد، وحوامل الذل، وممارسات الحقد والضغينة البينية، فهم أقوياء على بعضهم، ضعفاء أمام غيرهم، وهذه سنة عربية حجّمها الإسلام، وقضى عليها، حتى عادت النعرات، وتحولت النقائض البينية إلى ضرورات حتمية للقتل والتدمير والتشريد والإفساد في الأرض، تماماً كما يحدث في العراق وسوريا واليمن وليبيا، معارك سببها المتناقضات التي يمكن تجاوزها، التي باتت أساساً للمواجهة وإفراز واقع غير الذي كانت عليه قبيل عقد من الزمن..
التوجه العربي للخلاف اليوم، توجه بيني، أيهم يقرض الآخر؛ ويحل محله، دون اعتبار للأرض الواحدة، والدين الواحد، والقومية الواحدة، واللغة الواحدة، والأرض الواحدة.. يحشدون لضم الولاءات، وتشكيل المليشيات، واستخدامها لشق الصفوف، والقفز على الحقائق، في ذات الوقت يأخذ الغرب موقف المتفرج على العرض السينمائي العربي الدموي، ويضخ وسائل التأجيج، كلٌ ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
نحن بحاجة ماسة إلى مراجعة أولوياتنا، والبناء على ذلك بما تمليه حقائق اليوم، مع أخذ الدروس والعبر من وقائع الأمس، حينها سنتمكن حقاً من تغيير أبجديات ظاهرة العزاء، وتحوير صورة الحزن، وإبعاد مصادر الخطر، بنداء الوحدة والتآزر والبناء، بعيداً عن الصراخ العشوائي الذي يشبه كثيراً صراخ الغربان!
اقراء أيضاً
تهامة.. خارج الحسبة الحكومية
حكومة بلا أجنحة
مبعوث السلام المستحيل