كل هذه الفترة الطويلة التي مرت على غياب رئيس الدولة مع حكومته لا يبررها إلا خيال ضعيف تستند إليه سياسة الشرعية. هذا الغياب - الذي يبدو لي أنه صار إدمانا عند كوادر الحكومة التي أصبحت لا تطيق فكرة عودتها إلى اليمن والعمل من داخل أراضيه - أضعف أداء الشرعية وزعزع ثقتها بنفسها، فضلا عن تعزيز شعور المقاومين على الأرض بالهوة النفسية والمادية بينهم وبين قيادتهم الفوقية.
لقد تنبه مؤخرا رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي لمغبة وخطورة استمرار غياب كوادر الشرعية "المغتربين"، عندما بدأت أدخنة الهم الشخصي والمحسوبيات الضيقة عند الكثير منهم تتصاعد عاليا، دالة بذلك على احتراق الهم العام والدور الوطني المناط بهم.
وجه رئيس الجمهورية حكومته وكوادرها بالعودة إلى عدن لممارسة مهامهم وإعادة بناء وتفعيل مؤسسات الدولة، لكن هذه الدعوة حزّت في نفوس الكثير ممن أدمنوا الصرفيات الفارهة والباذخة في المملكة وغيرها من دول التحالف، وشعروا معها أن الرئيس يحَمّلهم مالا طاقة لهم به. ولا يعد منطقا سليما بالنسبة لحالة الخمول التي سببتها تخمة الغربة لديهم وأسسوا عليها أفق تحركهم وأدوارهم.
ألم ينتزع الغياب، المغموس بالنثريات التي لم تكن في الحسبان، من نفوسهم رغبة النضال والاستعداد لحمل كلفته؟ وكما يقال دائما "الأسِّرَة الفارهة تفسد المناضلين". ليس هذا وقت التخمة والفندقية الأبدية، بل وقت الالتحام بالجماهير والعمل وسطها ومعها، لأننا نخوض معركة حاسمة لا تقبل الغياب إلى الحد الذي يشعر معه الحلفاء أنكم مجرد أشخاص تبحثون عن مصالحكم الشخصية، وتقبلون بالتحالف معهم وفق أي طريقة كانت أو تكتيكات تسعى مثلا لتحرير ميناء الحديدة فقط، ميناؤها فقط، بعيدا عما سواه!! أو حتى الإعلان من خارج الشرعية عن إيقاف معركة تحرير الحديدة، بعيداً عن هدف المقاومة الرئيس، القاضي بحتمية إسقاط الانقلاب في كل شبر من اليمن واستعادة الدولة المغتصبة.
لا أعتقد أن الوضع، بعد تحرير أكثر من ثلثي اليمن، مخيفاً، أو قل معقداً، إلى ذلك الحد الذي يبرر استمرار غياب جل طاقم الشرعية. وإذا كان هامش الأمن في عدن، مثلا، لا يشجع على العودة، فأنه يشجع عليها في كل من مأرب أو في حضرموت، ويمكن أن يكون كذلك بالنسبة لتعز، فيما لو كُرِسَتْ جهوداً لترميم حالة التصدع داخل صفها المقاوم.
تقتضي اللحظة الثورية الراهنة من الشرعية أن تستميت في خلق ظروف العودة إذا لم تراها مناسبة بعد، مع أنها ولا شك آهلة ترجو العودة. هذه الخطوة؛ أولا: ستردم الشعور بالصدع بين المقاومة على الأرض وبين قيادتها السياسية؛ وستعمل- ثانيا: على تعزيز التلاحم، واستنهاض الكثير من الإمكانات المجتمعية السائبة، لمقاومة الانقلاب والقضاء عليه، فضلا عن أنه سيمنح الشرعية الكثير من الثقة بنفسها، ويجعل منها نداً في تحالفاتها، وصانعاً أولاً للحدث، لا مجرد فاعلاً ثانوياً فيه، أو دائراً متخبطاً في مساره.
مع العودة، نعود ثواراً ومقاومين حقيقيين. وحين نكون كذلك نستطيع أن نفرض أولوياتنا الوطنية على حلفائنا، وأن نرسم خارطة المرحلة، بل ونكيف مصالحهم وفقا لما تقتضيه مصالحنا نحن، لا العكس.
أحد من العوامل التي ساعدت الحركة الحوثية على الوصول إلى قطاعات واسعة من المجتمع لتعيد إنتاجها كخصوم للشرعية، هي الآفاق التي سدت إمكانية مغادرة نخب الانقلاب وقياداته. لقد أجبرهم هذا الخيار أن يبحثوا من داخل المجتمع عن أسوار صد واحتماء. وبالفعل وجدوها، وكان بالإمكان للمقاومة أن تصل إليها قبلهم فيما لو استمر الالتحام بالناس.
فكِّروا بإنقاذ اليمن ككل متكامل، لا إنقاذ بعض أوصاله. وحين نبدأ بالخيار الأول، سنجد أن العودة أولى مقتضياته. وتذكروا أن ثورتنا في الساحات، كانت شكلاً من أشكال العودة التي أخرجتنا من لحظة سبات الهم العام، وجمعتنا لتوجيه جهودنا نحو هدف بعينه: التغيير. ثم تذكروا أن اليمن- في عيوننا كثوار ومقاومين- يختلف عنه في عيون الآخرين أيّاً كانوا.
اقراء أيضاً
بل كانت حربا على الحياة برمتها
"العودة".. حلم نازح
الجُهد الوطني المهدور