دفع الانقلاب الكثير من الأسر اليمنية للنزوح خارج مدنهم وقراهم ليعيشوا بعدها ظروفا صعبة ومأساوية لا يمكن أن يشعر بها من لم يذق ولو النزر القليل من كأسها العلقم.
بعض هذه الأسر لم تكن تتوقع أنها ستصبح في دائرة اهتمام الانقلابيين، لكنها وجدت نفسها فجأة مجبرة على التشرد دون ذنب يذكر سوى موقف أحد أبنائها المناوئ للانقلاب والذي بفعله نُكِلَ بالأسرة كلها، أطفالا وشيوخ، ذكورا وإناث.
والبعض الآخر وجدت نفسها في خط تماس الحرب، وعند جماعة مصابة بالرهاب والوسواس تجاه كل من ليس ضمن ميليشياتها العنيفة، مما دفعها هي الأخرى للنزوح هربا من هول الحرب، أو نكاية، وفوبيا المليشيا تجاهها. وكثير ما ارتكبوا بحق مناوئيهم جرائما بشعة على مرأى ومسمع من عائلاتهم. يكفي أن يشي واحدا من رعاع القوم، منحرف ومجرم، بحق أسرة كريمة أو شخص، لم يألف الناس عنه سوى سمو الأخلاق والمروءة، حتى يكون ذلك كافيا ليجد نفسه تحت طائلة شرورهم، مجردا من أي حيلة سوى الرحيل أو القبوع في سجون، مات في غياهبها خيرة شباب اليمن تحت وطأة السادية، ومالم يخطر على بال من صنوف العذاب الجسدي والنفسي.
رحلت هذه الأسر حاملة معها آلامها وأحزانها ونفاد صبرها. وكل يوم يمر عليها أصعب من سابقه. فالإغاثة التي بالكاد تسد جزء من رمقها، تتضاءل يوما بعد آخر. وحديث المجتمع الدولي بكل مؤسساته، فضلا عن منظمات الإغاثة العربية والعالمية، تنوح جراء مأساة التشرد في اليمن أكثر من مضاعفة جهودها لاحتوائه.
البعض من هذه المنظمات خرجت من اليمن أو عطلت برامج عملها فيه، والبعض الآخر أنحرف عن المسار واختلت القيمة الأخلاقية التي يجب أن يرتكز عليها جوهر العمل الإغاثي. أقصد أنها تقدم الكثير من الدعم الإغاثي لأغراض مشبوهة لا تخرج عن دائرة دعمها الانقلابيين بهذه الإمكانات التي يسيطرون عليها ويصادرونها فيحرم منها مستحقوها من الجياع المشردين، أو المتعففين في منازلهم ومن امتدت أيديهم الكريمة بعد ضيق الحال للغير. إن معظم ذلك الدعم يذهب بكل بساطة إلى جيوب تجار الحرب وصانعي الدمار، ليعيدوا بها توسيع نطاق مأساة الحرب وإطالة عمرها.
الإعلام لا يكشف حجم مأساة التشرد ومآلتاه، ومالم يصل إليه يندي الجبين ويدمي. فكم هم كثر أولئك الأطفال والمواليد وغيرهم الذين ماتوا جراء سوء التغذية، أو الذين فتكت بهم أمراض بعثتها الحرب من مماتها، كالكوليرا وشلل الأطفال والدفتيريا وأمراض أخرى، كانت قد غابت عن اليمن، لكنها عادت تفتك بأبنائه في طول اليمن وعرضه.
ومما يؤسف أكثر؛ أن العالم لا ينظر إلى مأساة بلادنا بذلك التعاطف الذي ينظر به، مثلا، إلى مأساة السوريين أو الليبيين. وكأن مآسي اليمن غير جديرة لاستفزاز مشاعرهم نحوه، أو كأنها مآسٍ تتعلق بسكان كوكب آخر ...!!
قال لي شاب يمني مشرد في القاهرة، إن موظفا في مفوضية الأمم المتحدة للاجئين قال له إنهم لا يمنحون اليمنيين حق اللجوء. وحين سأله الشاب لماذا نحن استثناء عن الآخرين؟ رد عليه قائلا: أولا، أوضاع بلادكم ليست سيئة بدرجة تدعوكم للجوء؛ وثانيا اليمنيون دائما ليسوا جادين في طلبهم اللجوء..! إلى هذا الحد لا يزالون ينظرون إلى اليمن كبلد غير منكوب، وبهامش استقرار يمنعهم، لا يشجعهم، لمنح حق اللجوء لطالبيه من اليمنيين ؟!
لا تستغربوا؛ فياما سمعنا مجلس الأمن الدولي- ممثلا بمؤسساته وهيئاته المختلفة- بين الحين والآخر، يطالب "أطراف الحرب" بأن تكف عن الاقتتال! ركزوا على جملة "أطراف الحرب"، التي تحمل مدلول المساواة بين الضحية والجلاد...! كأننا سواسية بالتمام والكمال، متناصفين أسباب الحرب من وجهة نظر المجتمع الدولي، وليس ثمة انقلاب على الشرعية تسبب بكارثة الحرب، وإنما هناك أطراف تتقاتل على السلطة، وعليها أن تجنح للسلم، على قاعدة تقاسم السلطة بعيدا عن ماهية المشاريع التي يحملها كل طرف.
أن يتمذهب اليمن ويتمنطق (من المناطقية)، تحت رغبة جماعات تحمل هذه المشاريع الزعاف، على حساب مشروع غالبية الشعب الساعي إلى دولة المواطنة والقانون، فلا مشكلة ..! إذ نحن، في نظرهم، أطراف متقاتلة لا انقلابين غاصبين للشعب، وشرعية تمثل الأغلبية الساحقة وتسعى لاستعادة الدولة التي أسقطها وسيطر عليها الانقلاب بقوة السلاح.
الخلل في تقييم وتوصيف الوضع اليمني ممتد عبر موقف المجتمع الدولي برمته. وما دام على هذا الحال، فإن خيبة رجاء اليمنيين تجاهه في محلها. فهو لم يكن يوما منقذا للعراق ولا الصومال من قبله، وغيرهم الكثير.
اقراء أيضاً
بل كانت حربا على الحياة برمتها
"العودة".. حلم نازح
الجُهد الوطني المهدور