من الملاحظ أن شهر رمضان بما يحمله من معان سامية، ورقي روحي لجمهور المسلمين، قد تحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى شهر للترفيه والتسلية، بدلا عن كونه شهرا للعبادة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، بحيث طغى الجانب المادي للإنسان على الجانب الروحي الذي يمثله شهر رمضان المبارك.
إن الصيام بمعناه الواسع، لا يشمل فقط مجرد الامتناع عن المفطرات من طلوع الفجر وحتى غروب الشمس، وإنما يشمل العديد من المعاني والدروس، التي تهدف إلى تهذيب سلوك الفرد، وتعويده على الصبر، والإحساس بمعاناة الآخرين، إضافة إلى تعزيز شعور الوحدة والأخوة بين المسلمين، من خلال أداء فريضة الصيام في وقت معيّن من السنة، وزمن محدود في اليوم الواحد.
لقد أصبح رمضان شهرا استهلاكيا، للأطعمة والمشروبات المختلفة، أكثر من بقية شهور السنة، ومع اقتراب شهر رمضان، تجد الكثير من الأشخاص، يستعدون لاستقباله، بشراء كثير من المنتجات الغذائية الكمالية، التي بالكاد يستطيع الإنسان توفيرها في الأيام العادية، ومع ذلك يعمل جاهدا لتوفيرها خلال شهر رمضان، وكأن الصيام لن يتم بدونها، ولذلك أصبح رمضان هو الأكثر استهلاكا وتبذيرا للأموال في منطقتنا العربية والإسلامية مقارنة ببقية أشهر السنة.
تشير المعلومات إلى أن استهلاك المجتمع السعودي في شهر رمضان المبارك يعادل نحو 30% من حجم الاستهلاك خلال عام كامل، أما في مصر فيستحوذ شهر رمضان على 20%من حجم الإنفاق السنوي على الطعام، على الرغم من المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، ومشكلة الإنفاق هذه، تصاحبها مشكلة أسوأ منها، وهي هدر الأطعمة ورميها للنفايات، ففي السعودية يتم هدر نحو 70% من مشتريات الأطعمة، وينتهي بها المطاف في النفايات، هذا التبذير يستدعي من الإنسان المسلم، إعادة ترتيب أولوياته خلال شهر رمضان المبارك، والتفكير بشكل أمثل، خاصة وأننا نعيش على وقع أزمة إنسانية غير مسبوقة في أكثر من منطقة عربية وإسلامية، تتطلب البذل والعطاء بدل التبذير والمبالغة في شراء الأطعمة المتنوعة، وإلا فأي معنى للصيام إذا كان هناك أطعمة تهدر، وهناك ملايين البطون التي تتضور جوعا؟!
ولذلك يجب على الإنسان المسلم، أن يستشعر المعاناة التي يعيشها الناس في محيطه، وأن يعمل جاهدا للتخفيف عنهم، ومواساتهم بما يسد رمقهم، ويجب عليه التخلص من التبذير والهدر الموجود في وجبات الطعام، بترشيد الاستهلاك، وإرسال قيمة الفائض اليومي للفقراء والمحتاجين، ممن يعيشون معه في نفس المنطقة أو مناطق أخرى، والله سبحانه تعالى أمرنا بترشيد الإنفاق وفق حاجاتنا، ونهى عن الإسراف والتبذير، فقال سبحانه: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ».
إن الأنماط الاستهلاكية التي يقوم بها الناس في رمضان، قد فتحت باب الجشع على مصراعيه أمام الكثير من التجار، الذين يجدون في رمضان فرصة للربح السريع، ومضاعفة المال، وعدم مبالاة الأسر الغنية بالارتفاع في أسعار السلع، يؤثر بشكل كبير على الأسر الفقيرة، التي تضطر للشراء بأسعار تفوق قدراتها المادية، الأمر الذي يخلق فجوة مجتمعية، يجب ردمها بتكافل الأغنياء مع الفقراء، والإحساس بمعاناتهم، قبل التفكير في السلوك الشرائي.
وإذا كان السلوك الشرائي للسلع الغذائية وما يصحبه من إسراف، ينال من روح رمضان التي تدعو للإحساس بمعاناة الفقراء، فإن التلفاز يلعب دورا مشابها في إفراغ الروح الرمضانية، من الشعائر التعبدية، واستبدالها بنمط ترفيهي، يفوق النمط الترفيهي في بقية أشهر السنة، وهذا لا يفسره سوى أن هناك قنوات تلفزيونية، أخذت على عاتقها القيام بهمة الشياطين المصفدة!
بلغة الأرقام، فقد تجاوز عدد المسلسلات العربية التي تبث خلال شهر رمضان هذا العام، أكثر من 100 مسلسل، معظمها تدور حول الكوميديا والإثارة والتشويق والإغراء والرومانسية، وتحتل مصر المرتبة الأولى بنحو 34 مسلسل، يليها الكويت وسوريا بواقع 15 مسلسل لكل منهما، وهذه المسلسلات لا تتطرق للمشكلات التي يعاني منها المجتمع بقدر ما تروّج لأفكار دخيلة، وتشجع على التمرد على التشريعات الربانية، والقيم الإسلامية، كما أنها سببا في إثارة الجدل والأزمات السياسية، رغم حجم الإنفاق الهائل عليها، حيث تشير إحصائيات غير رسمية إلى أن حجم الإنفاق على المسلسلات المصرية لهذه السنة، بلغ ما يقارب 100 مليون دولار، مقارنة بنحو 60 مليون دولار للعام الماضي!
هذا الغثاء في المحتوى التلفزيوني العربي، يقودنا حتما إلى وجود نوايا مبيته، لإفساد روح رمضان عند المسلمين، والقضاء على الروح الإسلامية التي يعمل رمضان على إحيائها والإعلاء من شأنها، وما يؤكد وجود مثل هذه النوايا، لجوء الفضائيات لإنتاج برامج دينية تتواءم مع توجهات السلطة القائمة، والقيم الدخيلة، بعد اختفاء الكثير من الدعاة في السجون وتقييد آخرين عن الظهور، لتخلو الساحة للمهرجين لترويج أفكارهم المسمومة والخبيثة، كما يفعل المدعو محمد شحرور في برنامجه المذاع خلال رمضان هذا العام.
إن روح رمضان لا تكون في السهر لمتابعة المحتوى التلفزيوني المنحط، وإنما في الارتقاء الروحي من خلال شعائر الصوم والصدقة والقيام، كما أن روح رمضان لا تكون في النوم العميق خلال النهار حتى وقت الغروب، وتضييع الصلوات المفروضة، وإنما في الحفاظ على أداء الصلوات في أوقاتها، وقراءة ورد يومي من القرآن بتدبر وتأن، وتعويد النفس على الصبر على الطاعات والعبادات المختلفة. روح رمضان أيضا، لا تكون في الإسراف في تناول وإعداد الأطعمة المتنوعة، وإنما في الإحساس بمعاناة الفقراء والمحتاجين، ومواساتهم، خاصة مع تصاعد وتيرة التشرد واللجوء في أوطاننا، فهل سنعيد لهذه الروح مكانتها اللائقة بها؟!
اقراء أيضاً
سطا الحوثيون على قريتي... فصرنا غرباء
الجريمة في ظل اللادولة
موسم الهجرة القسرية