حتى زمن قريب كان أفراد الأسرة، يجتمعون في رمضان على مائدة واحدة، يتبادلون خلالها الحديث، والنكت والطرائف، بصورة عفوية تحت ظلال أوطانهم، حتى تمزقت الأوطان، ومعها تعددت الموائد، في مواطن اللجوء والشتات، وبقيت المائدة الواحدة حلم منتظر، يراود أفراد الأسرة الواحدة، ويهدهد أحلامهم البائسة، باستثناء الذين غادروا هذا العالم إلى عالم آخر، في جنبات التراب.
يحل شهر رمضان المبارك هذا العام، كسابقيه منذ سنوات، يحمل في طياته روحانية الافتقار والاعتراف بالضعف وقيلة الحيلة، والتلذذ بروحانيته، وعباداته المتعددة، وفي تفاصيله اليومية، تستوطن غصّة من الذكرى لرمضان الزمن الماضي، حيث تضيء الفوانيس وتزيّن المصابيح الأزقة والحارات، لا قذائف القصف العشوائي، والغارات الجوية، وحيث تتعالى هتافات الأطفال المحتفية بليالي رمضان ويتردد صداها في جدران المنازل المتلاصقة، لا الصمت المطبق والظلام المخيم على منازل هجرها ساكنوها قسراً، ورحلوا عنها تاركين إرثا ثقيلا من الذكريات، يلتهمها فحيح الأفاعي وعواء الكلاب الشاردة.
عند حلول رمضان، تبدأ الذاكرة فرز المواقف، واسترجاع الأحداث، والوجوه المألوفة، يفعل الناس هذا الأمر بصورة متكررة لا إرادية، وربما إرادية، في لحظات عميقة، يحضر فيها الغائبون مائدتي الإفطار والسحور ، سواء كانوا في بلاد المنفى، أو تحت التراب، أو في سجون الجلاد، يتكرر الأمر طوال أيام الشهر المبارك، ومعه الغصص المتلاحقة، في زمن لا يسر العدو ولا الصديق بصورة متفاوتة.
رمضان المبارك يحل هذا العام بصورة أكثر مأساوية، مئات الآلاف سيقضون رمضان ولياليه في منفى إجباري سيقوا إليه دون سابق إنذار، ذنبهم أنهم رفضوا الانصياع لسوط الجلاد، ولنزوات السلطة العبثية، يحتل السوريون النصيب الأكبر من هذه المأساة، إذ شهدت بلداتهم هذا العام أكبر عملية تهجير قسري، منذ اندلاع الثورة في مارس/آذار 2011، ضمن عملية ديموغرافية منظمة تمتد خيوطها لتشمل مناطق في اليمن وليبيا والعراق.
يأتي رمضان، وقد غيّب الموت آلاف الثائرين، ممن طالهم بطش الأنظمة القمعية، ومجازرها المروعة، في أكثر من مدينة، كلها تلتقي عند بقعة دم واحدة لا تتجزأ، دم الحرية الحمراء التي تحدث عنها شوقي ذات زمان في قصيدة من الشعر.
مشتركة مع الموت في التغييب، تضج زنازين الأنظمة البائدة، بمئات آلاف الأبرياء، يعانون سوء العذاب في سجون أشبه ما تكون بجهنم مصغرة، يلفح غيابهم قلوب أسرهم وأمهاتهم، وقد تناقصت موائد الإفطار والسحور، وحلت محلها مآتم لا تتوقف، وموائد من النشيج والذكرى، آلاف الأُسر فاض بهن ألم الغياب، وخذلهن الصبر في أوج احتياجهن إليه.
في سجون الانقلابيين الجدد، يقبع مئات الآلاف من المعتقلين منذ سنوات، بلا سبب يذكر، ودون محاكمة تمكنهم من الحصول على تهمة مفبركة على الأقل، تنفرد سوريا الأسد بنحو 300 ألف معتقل، بينهم 200 ألف مخفيون قسراً، وتليها مصر السيسي بنحو 40 ألف معتقل، معظمهم اعتقلوا على خلفية الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013، ومن بعد مصر يأتي اليمن السعيد؛ نحو 20 ألف معتقل في سجون الحوثيين، منذ سقوط صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014.
أنظمة القمع العربية لا تختلف عن بعضها، وتتنافس فيما بينها في ابتكار وسائل تعذيب جديدة، أكثر إيلاما للمعتقلين في سجونها، وإذا كان التعذيب وجبة يومية يقدمها الجلاد للضحية، فماذا بقي من قدسية رمضان داخل أروقة الزنازين؟ وما قيمة التهاني الرمضانية التي يزفها الجلاد إلى الشعب، وهو يحتجز أبناءهم، ويمنع عنهم ضوء الشمس؟ ثم كيف لمعتقل معزول عن العالم الخارجي أن يقتنع بأنه يعيش أيام وليالي شهر رمضان، وهي لا تختلف كثيرا عن بقية أيامه، سوى أنها تضيف شوقا إلى أهل يحلم بلقائهم، والشوق في الزنزانة تعذيب مضاعف، تماما كما هو تعذيب لأهله وهم يستحضرون ذكراه، فلا يرتد إليهم غير خواء المكان، وعقدة النقص في عدد الأفراد!
ليس لرمضان ذنب أو جريمة في استحضار قصص الغياب، وغصص الذكرى المتلاحقة، الجريمة هي جريمة من تسبب في إيصالنا و أوطاننا إلى هذا الوضع البائس، من غيّبوا مدفع رمضان، واستبدلوه بآلاف المدافع لقتل المواطنين، وتدمير الأوطان.
اقراء أيضاً
سطا الحوثيون على قريتي... فصرنا غرباء
الجريمة في ظل اللادولة
موسم الهجرة القسرية