غريب. كثيراً ما فكرت في الشاعر اليمني الكبير، عبد العزيز المقالح، هذا الذي لم يغادر اليمن، وربما صنعاء، مذ عاد من القاهرة بشهادة دكتواره في أواسط سبعينيات القرن الماضي. هذا ما فهمته منه في أحد لقاءاتي به في صنعاء. قد أكون مخطئاً، إذ إنها فترة طويلة. يصعب التصوّر أنه لم يلب دعوةً، أو يخرج في إجازة، نزهة، خلال كل هذه السنين. ما يؤكد لي إقامته الصنعانية، ما أقام عسيب.
عدم رؤيته في محفل أدبي، أو ثقافي عام، على مدار انخراطي في الحياة الثقافية العربية منذ نحو أربعين عاماً. ما أهمية أن أذكر ذلك؟ ماذا يهمنا أن يبقى شاعرٌ في مدينةٍ لا يغادرها؟ هناك أمران: الأول ارتباطه بمدينته إلى حد أنه لا يطيق مغادرتها ولو في رحلة قصيرة. الثاني: أنه يتطير من السفر. يخاف المواصلات الحديثة بين البلدان: طائرات، سفن، حافلات. أرجِّح السبب الأول. كل من رأى المقالح، في العقود الأربعة الماضية، رآه في صنعاء. وربما في "مجلسه"، العامر بالشعر والشعراء، الذي أممته أكثر من مرة.
ترك عبد العزيز المقالح أثراً قوياً في نفسي، بعد أول لقاء لي به في أواسط تسعينيات القرن الماضي. كنت في رحلةٍ يمنيةٍ جنوبيةٍ – شماليةٍ انتهت في صنعاء. وإذا كان لا بد من صنعاء (عنوان ديوان له)، فلا بدَّ من المقالح عندما تحط في صنعاء. لا يمكن أن تكون في صنعاء، أم القمريات البديعة والجص الأبيض الذي يكتحل به البناء الفريد، ولا ترى المقالح. إنه عمدتها غير المتوج. عمدة الثقافة والتنوير والتحديث واللطف الإنساني النادر. إن لم تر المقالح فأنت لم تزر صنعاء، ولم تعرف اليمن.
يترك المقالح أثراً في زائريه، ويختلف هذا الأثر باختلاف زائريه. بالنسبة لي كان أثراً شخصياً جداً، فقد ذكَّرني بوالدي. كان هناك شبه، لم أستطع تحديده، بينه ووالدي. قد يكون شيب الرأس. قد يكون الهدوء الذي يطبع شخصه. وقد يكون حنوّه حيالي. مذ تلك الزيارة، صار لاسم المقالح عندي وقع آخر، يضاف إلى دوره الثقافي الريادي في اليمن والجزيرة العربية ككل. هكذا فكّرت به، والحرب في اليمن، وعليه، تستهدف كل شيء تقريبا. وفكّرت به، بعد الانقسامات المهلكة التي سهلت تدمير اليمن، والقضاء على ثورته الأكثر سلمية بين ثورات الشباب العرب.
كاد اسم عبد العزيز المقالح يختفي تحت قعقعة الحرب. أيّ صوتٍ للشاعر في ظل قاذفات القنابل، ومدافع الميدان، وصخب الذين يحتلون الشارع، ومن أكتافهم تتدلى البنادق؟ أي علاقة للشاعر بهذه الشعارات التي تمجّد الموت والدم، وتكذب في يمنيتها؟ يختفي الشاعر عندما يصعد كاتب الشعار. للشعار صوتٌ صادح. للشعر صوتٌ خفيض. وعندما يتعلق الأمر بعبد العزيز المقالح فهو صاحب صوتٍ خفيضٍ جداً في المجلس والقصيدة. وغريبٌ أنني لم أعثر على اسم المقالح في صخب هذه السنين اليمنية العاصفة. صارت الأسماء اليمنية أقل ألفةً. صارت معمّدة بالدم. وأي حضور سيكون لاسم شاعر؟
لكن أبت الأيام اليمنية السيئة إلا أن تريني اسم المقالح وصورته مقرونين بحاضر الأيام اليمنية السيئة، فقد نشرت الصحف صورة له والحوثي الصمّاد "متفقداً" مكتبته. صورة أسيرة. هكذا شعرت. ما خصّ زائر المقالح بمكتبة المقالح؟ أي علاقة له بمشروعه؟ ماذا تفعل بندقية المليشيا في مكتبة الشاعر؟ هذه الكتب التي ينظر إليها الحوثي الصمّاد ضد مشروعه المليشاوي، مثلما هي ضد مشروع قاذفات القنابل التي تجوب سماء اليمن. ليس المقالح هنا. وليس هناك. إنه، في منجزه وجامعته وأصدقائه الشعراء والنقاد العرب الذين جاء بهم إلى الجامعة اليمنية، في مكان آخر. ليس في منزلةٍ وسطى بين المليشيا وقاذفة القنابل. بل في الضد منهما. هكذا أفكّر في عبد العزيز المقالح، وهكذا أفهم مشروعه.
* كاتب أردني نقلا من "العربي الجديد"
اقراء أيضاً
الرئيس يزاول عمله كالمعتاد!
ما هو الحبّ؟