لا خوف على مصر من عمليات إرهاب مهما عنفت واشتدت، ومهما كان حجم المؤامرة والمتآمرين، فليس بوسع أحد أن يهزم مصر في ميدان حرب، ولدينا مدد هائل من القوة الصلبة، والتفاف وطني حول الجيش المصري أحد أقوى جيوش الدنيا بإطلاق، الذي يواصل حرب تطهير سيناء من جماعات الإرهاب الكافر الموالية موضوعيا للعدو الإسرائيلي.
وقد قدمت مصر مئات الشهداء في حرب تحرير وتطهير سيناء، وزحفت قوات الجيش المصري إلى خط الحدود التاريخية مع فلسطين المحتلة لأول مرة من خمسين سنة، وحاربت وتحارب في صدام من نوع مختلف.
تتزايد خبراته ودروسه يوما بعد يوم، وتسد النواقص والثغرات في ميدان المعلومات، وما من ذرة شك في النهاية المحتومة لجماعات الإرهاب المدارة من قبل جهاز «الموساد» الإسرائيلي، حتى إن بدت الأدوات مدعية زورا للإسلام، أو ممولة بسخاء من قبل جهات كارهة لعودة القاهرة إلى دور قيادي على الجبهة الفلسطينية بالذات.
ولا أحد يستهين بالمخاطر التي تواجه مصر والمصريين الآن، ويبرز فيها خطر الإرهاب المدار والممول خارجيا، وقد ضاقت الدوائر عليه، ونهايته محتومة، بينما لا يصح صرف النظر عن مخاطر أخرى أكبر تهد حيل الدولة المصرية من داخلها، وتنشر الإحباط في صفوف المصريين، وتستلزم تعبئة شعبية تشبه التعبئة في مواجهة خطر الإرهاب، ويبرز بينها خطر الفساد المتفشي، الذي تصدمنا أخبار «رشاواه» كل يوم.
وتتساقط بعض عناصره في يد الأجهزة الرقابية، وعلى طريقة حملات الرقابة الإدارية، التي كشفت تغلغل الفساد في كل الجهات تقريبا، في دوائر قضائية، ودوائر استثمارية، وفي وزارات أساسية، وفي الأجهزة المحلية الفاسدة بالجملة، وفي حلقات الوصل المتحكمة، وعلى نحو ما تكشف في ضبط قيادات مرتشية، لم ترتدع بضبط و»تجريس» سيدة الفساد الحديدية في الإسكندرية قبل أسابيع، وواصلت فسادها كأنها تتحدى الرقابة.
وإلى أن سقط حوت فساد جديد في محافظة السويس، لن يكون الأخير بطبائع الأمور، فالقاعدة الجنائية والأمنية معروفة، وهي أن ما يجري ضبطه في العادة، حتى لو كانت العيون مفتوحة إلى أقصى اتساعها، لا يزيد على عشرة في المئة من حجم الجريمة المعنية، خصوصا أن الفساد في مصر ليس حالات متفرقة ومعزولة، بل امبراطورية كاملة الأوصاف، تستلزم مواجهتها حرب أقسى من الحرب ضد الإرهاب، فالفساد أخطر من الإرهاب، فقد يقتل الإرهاب أفرادا ويدمر منشآت، ويشيع الخوف لبعض الوقت، لكن الفساد يقتل روح الأمة بكاملها، ويدمر الدولة، ويشيع اليأس المقيم في نفوس المصريين، ويهدر طاقة البلد، ويعيدنا دائما إلى نقطة الصفر، ويتحالف مع الإرهاب موضوعيا، بتوفير المزرعة المواتية لانتعاش جراثيم الإرهاب، وبنشر شعور اللامبالاة في أوساط الكتل الغالبة المرهقة من الشعب المصري.
وقد لا يصح لأحد أن يهون من أثر نشاط الرقابة الإدارية، ولا أن يهول به في الوقت نفسه، فالقيمة الأساسية لما يعلن عنه من حالات جرى ضبطها، وفي مواقع تحكم بيروقراطي، أنها تكشف هول السيطرة المتفشية لرجال الفساد ونسائه، واتساع الخرق على الراتق مهما حسنت النيات، فلسنا بصدد حالات شذوذ، بل بصدد إطار هيمنة متكامل لامبراطورية الفساد، لا تخلو منه مصلحة أو هيئة أو وزارة، بل لا تعيش بدونه.
وهو ما يفسر أحوال الجرأة الفاجرة للفساد، وعدم تراجعه بالخوف من النشاط الرقابي اللافت، فقد دربت بيروقراطية الفساد نفسها على مواجهة الحالات الطارئة، والنظر إلى النشاط الرقابي كأنه هوجة وتنتهي، والعودة من جديد إلى خطوط الفساد ذاتها، ومواصلة حروب استنزاف الطاقة، ونهب الموارد، حتى إن جرت التضحية بأكباش فداء صغيرة أو كبيرة، وتظاهر الفاسدون أنفسهم بأنهم يحاربون الفساد.
المصيبة أكبر من أن تعالج بغارات مفاجئة أو دورية، ولا تكفي فيها دورات تدريب، أو إعداد كوادر، سرعان ما تتحول هي نفسها إلى عناوين فساد، يتعذر كشفه إلا بعد حين، خصوصا مع أوضاع دولة، ضربها إيدز الفساد في بنيانها وأساسها، وفكك مناعتها، وأصابها بالتحلل الرمي، وشكا الرئيس السيسي نفسه من أحوالها المتدهورة، إلى حد وصفها بأنها صارت «شبه دولة»، أو تحولت إلى «طابونة».
وهو ما يستلزم سلوكا آخر، لا يستثني نشاط أجهزة الرقابة، لكنه لا يتوقف عندها، ولا عند تقاريرها، بل يتقدم إلى حرب شاملة لكنس امبراطورية الفساد، يشارك فيها الشعب بصورة مباشرة، وعبر لجان شعبية في كل حي وقرية ومنشأة، تفضح وتوثق الفساد بالصوت والصورة والحقائق والممارسات اليومية، وتطلق في سياقها الحريات العامة، وأولها حريات الإعلام، مع تغيير وإزالة القوانين المحابية للفساد، من نوع جواز المصالحات في سرقات المال العام وتحصين عقود الدولة من التقاضي، مع حملات تطهير واسعة في جهاز الدولة من قاعدته إلى رأسه.
هذا أن كنا حقا نريد إعادة بناء الدولة، أو التقدم إلى نهوض مهدد بكل هذا الخراب، فلن يستقيم العود مع يد تبني وأخرى تخرب وتسرق. وقد دعونا من سنوات إلى «مذبحة مماليك» شاملة، وإلى قطع رؤوس الفساد وتصفية أدواته جميعا، وقلنا إنها واجب الوقت وفريضــــة السياسة الغائبة، وتصور البعــــض أننا ندعو إلى فوضى، أو إلى إراقة دماء، بيــــنما كنا ندعو ولا نزال إلى قصاص عادل، وإلى قوانين طوارئ اجتماعية، تزيل القبح والقيح المتراكم، وتمهد لإعادة بناء الدولة من جديد، وتستعيد الأموال والأصول المنهوبة والمهدرة، وتفتح أفق أمل أمام عموم المصريين، فلا تكفى الإنجازات الإنشائية لبث الروح الإيجابية، بل لابد معها من إنجازات عدالة صارمة.
وفي لحظات لاحقة، بدا الرئيس السيسىي متحمسا لخوض الحرب ضد الفساد والنهب، وأمر بحرب الأسبوعين ـ نهاية يونيو 2017 ـ لحصر سرقات الأراضي وحدها، وتبين الهول العظيم، وجرى حصر أولي كان حصاده مفزعا، فقد تبين ـ بالأرقام الرسمية ـ بعض ما جرى، ومنه سرقة حوالى 2 مليون فدان من أراضي الدولة الزراعية، و165 مليون متر مربع من أراضي البناء، لم يجر سوى استرداد نسب محدودة منها، وقيل إن الباقي معروض لتوفيق الأوضاع وتحصيل الثمن.
ولم يعلن من وقتها عن النتائج، فقيمة الأراضي المنهوبة المضبوطة قد تزيد على ثلاثة تريليونات من الجنيهات، أي أنها تكفي لسداد ديون مصر الداخلية والخارجية، ولا تفسير للتخلف في تحصيلها، سوى أن القصة تاهت في دهاليز البيروقراطية الفاسدة، بل وصل الأمر إلى تمرد الناهبين، ورفضهم الدفع مقابل ما سرقوه، وإعلان «اللجنة العليا لاسترداد أراضي الدولة» إحالتهم إلى تحقيقات، لا يعرف أحد ما صارت إليه حتى الآن.
وهو ما يبرز قوة لوبي الفساد والنهب، وتعويقه لإجراءات استرداد الحقوق، وشنه لحرب دفاع عن الفساد بدعوى تشجيع الاستثمار، وكأن الاستثمار قرين للاستحمار، بينما يجري استنزاف جيوب الفقراء والطبقات الوسطى، وإحراقهم بالجملة في أفران الغلاء، وفرض الزيادات الفلكية في فواتير الكهرباء والمياه ورسوم الخدمات الحكومية، وخفض دعم البنزين ومشتقاته، وبدعوى توفير 40 مليار جنيه سنويا لدعم موازنة الدولة المنهكة، بينما يجري الصمت على تهرب الكبار من دفع الضرائب المستحقة، الذي تزيد قيمته على 400 مليار جنيه سنويا بالأرقام الرسمية.
ويعلن وزير المالية بفخر مريب أنه لا اتجاه إلى زيادة الضرائب التصاعدية على الكبار، مع تجميد الضريبة المحدودة على الأرباح الرأسمالية في البورصة، وإلغاء «الضريبة الاجتماعية» المحدودة على من تزيد أرباحهم السنوية على المليون جنيه، وهذه وجوه أخرى للفساد، أبعد أثرا من قضايا الرشاوى التي تضبطها الرقابة الإدارية، فنحن بصدد فساد سياسة أفدح من فساد مسؤولين، وما من فرصة لتصفية الفساد بغير سياسة واختيارات مختلفة، لا تتصارع فيها حكومات خفية وأخرى ظاهرة، وتفك فيها «العروة الوثقى».
بين الفساد البيروقراطي ومليارديرات المال الحرام، وتعطى الأولوية فيها لاستقلال القرار الوطني، والاتجاه لتصنيع شامل حربي ومدني، يزيد طاقة التصدير أضعافا، ووقف خصخصة ما تبقى من شركات البترول والبنوك ومحطات الكهرباء، على نحو يوفر فرص عمل دائمة منتجة لملايين العاطلين، وليس فرص عمل موقوتة في المشروعات الإنشائية الكبرى، ويوفر جانبا من موارد المشروعات الكبرى لإنشاء المصانع، وعلى طريقة «صبح على مصر بمصنع»، فلدى مصر موارد هائلة، بعضها مهدر والآخر مسروق، واستعادة المنهوب كافية لإقلاع اقتصاد البلد، وبغير حاجة إلى روشتات صندوق النقد الدولي المهلكة، وإغراق البلد في دوامة الديون.
فلا شيء يحفز الهمم أكثر من إشاعة العدالة الاجتماعية، والإنصاف في توزيع الأعباء، والاتجاه الحازم النهائي لتصفية امبراطورية الفساد الحليفة موضوعيا لجماعات الإرهاب، فبغير تصفية الفساد، سوف يظل الإرهاب المهزوم كامنا، تردعه قوتنا الأمنية إلى حين، ثم يعود للانقضاض على حياتنا التي يخربها الفساد.
*القدس العربي
اقراء أيضاً
يوم نكبة «إسرائيل»
«إسرائيل» المارقة وأمريكا المنبوذة
مأزق أمريكا الإيراني