ليست القصة في عدم تنفيذ قرار مجلس الأمن الأخير بوقف إطلاق نار «رمضاني» موقوت في غزة، فقد صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة مئات القرارات الداعمة للحقوق الفلسطينية، وصدرت عن مجلس الأمن عشرات القرارات المتصلة بالمعنى نفسه، ولم ينفذ كيان الاحتلال «الإسرائيلي» شيئا منها أبدا، ومن اللحظة الأولى لصدور قرار مجلس الأمن الأخير، لم تترك «إسرائيل» فرصة لأحد في التخمين.
وأعلنت فورا ورسميا أنها لن توقف القتال، وأعاد بنيامين نتنياهو ـ رئيس وزراء العدو ـ عزف اسطوانته المشروخة عن السعي إلى «النصر المطلق»، وعزمه على اجتياح رفح، والقضاء على ما تبقى ـ بحد زعمه ـ من كتائب «حماس» في لواء رفح، ورمى ومعاونوه هيئة الأمم المتحدة بوابل لا ينقطع من الشتائم، واعتبار الأمين العام للأمم المتحدة نفسه شخصا معاديا للسامية ومواليا لحركة «حماس».
وقد لا يكون من جديد جوهري في القصة كلها، وعبر ستة شهور إلى الآن من حرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين، سوى أن واشنطن تفضلت على الضمير الجامع للمجتمع الدولي بأكمله، وامتنعت عن استخدام حق النقض «الفيتو»، ووقفت عند حد الامتناع عن التصويت، وبما سمح بتمرير القرار، الذي سارعت واشنطن لوصفه بأنه «غير ملزم» في التنفيذ فور صدوره.
ربما لتلافي المزيد من غضب «إسرائيل»، التي قررت حكومتها عدم إرسال وفد كان مقررا ذهابه إلى واشنطن، بناء على رغبة معلنة من الرئيس الأمريكي جو بايدن، وبهدف بحث بدائل أمريكية لعملية اجتياح رفح، واقتراح تنفيذ غارات «جراحية» واغتيالات لقادة «حماس»، عوضا عن اجتياح شامل لمنطقة رفح، التي تضم اليوم نحو المليون ونصف المليون فلسطيني، أغلبهم من النازحين، يتوقع قتل وجرح مئات الآلاف منهم، لو أقدمت «إسرائيل» على اجتياح همجي، يشبه ما جرى في شمال غزة، ووسط القطاع وفي خان يونس جنوبا.
وكانت نتائجه تدميرا شاملا لكل شيء، وارتقاء نحو 40 ألف شهيد بمن فيهم المفقودون تحت الأنقاض، وجرح عشرات الآلاف، بما قفز بمجموع الضحايا حتى اليوم إلى ما قد يصل إلى مئة وعشرين ألفا، قد يزيدون أضعافا مضاعفة مع غزو رفح بريا، وبدا مع كل هذا السيل من الدم الفلسطيني، أن واشنطن قد تكون ظاهريا على شفا استفاقة ضمير، وقدمت مشروع قرار إلى مجلس الأمن، يتحدث عن «حاجة ملحة» لبحث التوصل لوقف إطلاق نار فوري.
ويشترط بالمقابل إفراجا كاملا عن المحتجزين «الإسرائيليين» لدى «حماس» وأخواتها، ويدين ما سماه أعمال «حماس الإرهابية»، ومن دون التطرق بكلمة أو إشارة لإرهاب كيان الاحتلال ووحشيته وهمجيته، وكان طبيعيا مع غلبة التعاطف العالمي مع الفلسطينيين، أن يسقط مشروع القرار الأمريكى بالفيتو المزدوج من روسيا والصين، ربما حرمانا لواشنطن من فرصة التظاهر بالعدالة الدولية، رغم أنها ـ أي واشنطن ـ سبق لها استخدام «الفيتو» لإسقاط ثلاثة مشروعات قرارات سبقت، كانت تطالب بوقف نار فوري ودائم.
وعقب سقوط مشروع القرار الأمريكي المريب، تقدمت عشر دول من غير الأعضاء الدائمين الخمسة في مجلس الأمن، وطرحت مشروع قرار بديل، سعت واشنطن لإفراغه من مضامينه، التي كانت تدعو لوقف نار دائم، وهددت في الكواليس باستخدام «الفيتو» الرابع ضده، وبما دفع مقدمو المشروع لإجراء تعديلات، جعلت حدود وقف إطلاق النار فيه منصرفة إلى نحو أسبوعين كانا تبقيا وقتها من شهر رمضان، وبعد اطمئنان واشنطن لهزال مشروع القرار، اكتفت بالامتناع عن التصويت.
غير أن الأمر بدا أبعد من إعاقات واشنطن المزاجية لقرارات الأمم المتحدة، وأقرب إلى مناورة عابرة ضاغطة في علاقتها بكيان الاحتلال، فمن بين أكثر من ثمانين مرة، استخدمت فيها واشنطن حق «الفيتو» في تاريخ مجلس الأمن الدولي، كان أكثر من نصفها لمنع صدور قرارات بإدانة «إسرائيل»، أو مساندة حقوق الشعب الفلسطيني.
وإذا أضفنا قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة عن القضية الفلسطينية، نجد أن واشنطن اعترضت عليها 114 مرة، بينها 80 مرة لمنع إدانة إسرائيل، و34 مرة ضد قرارات دعم حقوق الشعب الفلسطيني، ولم تمتنع واشنطن عن استخدام «الفيتو» سوى مرة وحيدة بصدد قرار لمجلس الأمن يدين الاستيطان اليهودي في القدس والضفة الغربية عام 2016، وكانت مغامرة من الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في نهاية أيام رئاسته الثانية، وقتها امتنعت واشنطن عن التصويت فصدر القرار، ومن دون أن يكون له أثر فوق رمزي.
ولم ينس أوباما أن يكفر عن سيئته الوحيدة بحق نتنياهو، الذي كان وقتها أيضا رئيسا لوزراء العدو، ووقع قبل أن يغادر البيت الأبيض على قرارات بتسليح «إسرائيل» مجانا بما قيمته 38 مليار دولار لمدة عشر سنوات، ظلت تنفذ إلى اليوم، وتزاد وتنقح من قبل الرئيس الحالي بايدن ظل أوباما ونائبه السابق، وشريكه في نقص الارتياح النفسي وغياب الكيمياء الشخصية في التعامل مع نتنياهو بالذات.
كان نتنياهو متعجرفا مع أوباما أول رئيس ملون في تاريخ أمريكا، وهو يواصل العجرفة والتحدي مع بايدن، ربما مع فارق صوري، أن أوباما أقدم على إجراء غير مريح لكيان الاحتلال، وهو يمضي إلى بيته بعد استنفاد فترتي رئاسته، بينما بايدن لا يزال محشورا في عنق زجاجة، ولا يزال يأمل في فترة رئاسة ثانية أواخر العام الجاري، ويخشى من أثر معاندة نتنياهو على فرصه، خصوصا مع تزايد احتمالات فوز منافسه دونالد ترامب في استطلاعات الرأي.
وترامب كما هو معروف، أكثر اندفاعا في دعم كيان الاحتلال من أوباما وبايدن، وفي النظام الأمريكي عموما، قد تكون للرئيس لمساته الشخصية المؤثرة في صنع السياسات الخارجية، اللهم باستثناء العلاقة مع «إسرائيل»، التي هي في حكم «البقرة المقدسة» عند صناع القرار الأمريكي من الجمهوريين أو الديمقراطيين، سواء بسواء، فما بين أمريكا و»إسرائيل» حالة اندماج استراتيجي.
وليس لدى بايدن من شبهة نزوع للتملص من «الالتزام المقدس» تجاه «اسرائيل»، وهو يفخر بصهيونيته الخالصة، رغم عدم كونه يهوديا، كما قال، ويؤمن بأن «إسرائيل» غاية ومصلحة أمريكية، و»لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها» على حد قوله المتكرر، وقد أبدى استعدادا للذهاب إلى آخر مدى في الحرب بجوار «إسرائيل» على غزة، وبهدف القضاء على حركة «حماس»، وتصفية الحساب مع هجوم «حماس» وأخواتها في 7 أكتوبر المزلزل، وشارك كما شارك معاونوه في اجتماعات مجلس الحرب «الإسرائيلي»، وفتح خزائن السلاح الأمريكي بأوسع أبوابها، وقدم لكيان الاحتلال أكثر من مئة صفقة سلاح فائق التطور حتى اليوم، وحرك أكبر حاملات طائراته وغواصاته النووية دعما لكيان الاحتلال، بل حارب نيابة عن «إسرائيل».
على نحو ما جرى ويجري مع «الحوثيين» في اليمن مثلا، لكن الصدمة الكبرى لواشنطن جاءت من غزة بالذات، فرغم كل زلازل الدمار وشلالات الدماء التي سالت وتسيل من الفلسطينيين في غزة، ورغم استخدام جيش الاحتلال لأغلب مخزونات أمريكا من الصواريخ والذخائر والقنابل الأمريكية، ورغم امتداد حرب الإبادة لنحو ستة شهور إلى الآن، فلم يتحقق لحكومة الاحتلال الأم في واشنطن، ولا لرفاقها الأصغر شأنا في «تل أبيب»، لم يتحقق لهم شيء مما تمنوه، كانوا يتصورون أنها قصة أسابيع قليلة وينقضي كل شيء.
لكن هدفا واحدا مما خططوا له لم يتحقق إلى اليوم، فلا حركة «حماس» وأخواتها هزمت، حتى لو استشهد عدد من كبار قادتها العسكريين، ولا هم استعادوا أسراهم بالقوة المسلحة، وما من أمل لأمريكا ولا لإسرائيل يلوح في الأفق المرئي، فهم لم يحسبوا حساب الإبداع القتالي المذهل لحركات المقاومة في «غزة»، ولا حسبوا حساب الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، الذي تحول إلى «الضحية المختارة» و»شعب الله المختار» في عيون الرأي العام العالمي.
ولم يجن الأمريكيون و»الإسرائيليون» غير «سواد الوش»، وصارت «إسرائيل» كيانا إجراميا مارقا عند الغالب الساحق من شعوب العالم، وصارت أمريكا المحاربة معها في وضع «الدولة المنبوذة»، والوصف ليس من عندنا، بل قاله تشاك شومر زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي، وهو يهودي من غلاة المؤيدين النافذين لكيان الاحتلال، وقد طالب باستبدال نتنياهو الذي يفشل «إسرائيل»، ويجر أمريكا معه إلى وضع «الدولة المنبوذة» عالميا، وهو ما يؤيده بايدن، الذي يسعى لإنقاذ «إسرائيل» من حربها المجنونة الفاشلة، ويريد كسب أصوات يهود أمريكا مع أصوات العرب والفلسطينيين، ويريد إنهاء حرب همجية، فقدت كل فرصها في كسب أي نصر محتمل.
*نقلاً عن القدس العربي
اقراء أيضاً
يوم نكبة «إسرائيل»
مأزق أمريكا الإيراني
حكومة إسرائيل في واشنطن!