حشد كبير دون جدال، ضخم دون نقاش. لنقل أيضا أنه أكبر حشد شهدته اليمن طوال تاريخها المديد، وينم عن قدرة مدهشة على التحشيد، ويمثل كذلك شعبية طاغية وكاسحة لمنظميه.
لنقل ذلك وأكثر..
غير أن سؤالا صغيرا وعنيدا يطل برأسه من كوة ما، في حواف الدماغ :
إذا كان الحال كذلك - وليكن كذلك بالفعل، فلا ضير - لماذا تم اللجوء إلى الحرب إبتداء ولم يتم الاعتماد على القدرات التحشيدية " المذهلة " هذه، بغية حشد وتحشيد الناس للتصويت ب " لا " على مسودة الدستور التي اتخذت ذريعة للانقلاب المسلح ومن ثم للإجتياحات والحروب في كل اتجاه، مع كل ما ترتب عليها، وما استجلبته واستصدرته من قرارات أممية، و " عدوانات " خارجية ؟!
لماذا تم اللجوء إلى السلاح والحروب - مع كل ما فيها من ويلات ومآسي وآثار بالغة الخطورة على البلد مجتمعا ودولة، شعبا وكيانا ومصير - طالما كان بالإمكان حسم الأمور سلميا من خلال التصويت ب " لا " في الاستفتاء الكان مزمعا على مسودة الدستور، بدلالة التحشيد " الأسطوري " - ان شئتم - هذا نفسه، وليكف الله اليمنيين شر القتال ؟!
ما جدوى الحشد الجماهيري، المليوني أو حتى الملاييني، في خضم الحرب وبعد كل ما حاق، ويحيق، بالبلاد من خراب وكل ما لحق، ويلحق، بها من دمار، مع كل ما يعنيه ذلك من تهديدات جدية بتمزق كياننا الوطني وتشظيه ؟!
أهو حشدا سلميا - حقيقة - أم احتشادا حربيا، وعلى أي أساس ؟! هل استفتاء على وقف الحرب أم على استمرارها يا ترى؟!
ما يجعل للحشود والمظاهرات معنى وقيمة، ليس حجمها بل عدالة، شرعية، وإنسانية، المطالب التي تتبناها وتتغيا تحقيقها، ومن زاوية قانونية وحقوقية صرفة، لا معنى لحشد السبعين يوم أمس، بالنظر إلى أن الهدف منه - حسبما تفصح عنه الوقائع - تسويغ خرق الدستور وإلتماس شرعية دستورية " شعبية " للمجلس السياسي الأعلى ولكن من غير منشأها الصحيح.
ذلك أن المظاهرات والحشود الجماهيرية، مهما بلغ حجمها، ليس من شأنها توفير شرعية دستورية لمفتقدها أصلا، طالما وأن تلك الشرعية لا تتوافر إلا بإجراءات ديمقراطية، دستورية وقانونية، وإحصائية، وتنظيمية خاصة، وفق كل تجارب وخبرات ودساتير الشعوب، والدستور اليمني أحدها بطبيعة الحال.
على أن الطريف هنا، في حشد السبعين، هو في أنه يعني - في ما يعنيه - أن مباركة وتأييد مجلس النواب المعتسفة عشوائيا " لما أتفقوا عليه بتعبير الراعي " لا تعني شيئا لجهة الشرعية الدستورية المفتقدة، لامن حيث إجراءات وشروط صحة الانعقاد ولا من حيث صحة ودستورية المباركة والتأييد.
إذ لو أن ما فعله مجلس النواب صحيح دستوريا، على سبيل الجدل، لما احتاجوا لحشد السبعين ذاك، مع كل ما اقتضاه وتطلبه من جهد وعناء، ولكن لأن إنشاء مجلس سياسي لإدارة البلاد، مخالف للدستور أساسا، ولأن ما فعله مجلس النواب من مباركة وتأييد، مخالفة أكبر وأكثر جسامة لذات الدستور.( فضلا عن مخالفة كل ذلك للمرجعيات الأساسية التي سبق وألزمت كافة المكونات السياسية نفسها بها )
احتاجوا إلى التحشيد، كسلوك تعويضي، زائف، ودفاعي، إزاء المآخذ والانتقادات الموجهة للاتفاق المنشئ لما أسمي بالمجلس السياسي الأعلى، وتاليا لمجلس النواب، بسبب مخالفته الدستورية الجسيمة تلك.
أي لكي يتسنى لهم الاحتجاج بأن الحشد الجماهيري، الضخم والكبير، يمثل تجويزا وتسويغا للمخالفة الدستورية المريعة، بحسبان أنه، أي الحشد، بمثابة تعديل دستوري، أو استفتاء شعبي لاحق، صادر عن " الشعب " الذي هو المشرع الدستوري حسبما هو معلوم.
ولكن، لأن التعديل الدستوري "الاستفتاء" يتطلب، بالضرورة، إجراءات دستورية خاصة - محددة سلفا بموجب الدستور نفسه وبكيفية إجرائية صارمة، ليس من بينها المظاهرات والحشود التي تملأ الشاشة فحسب - فإن حشد السبعين، الكبير والضخم، يغدو - والحال هذه - شاهدا على فداحة خرق الدستور وليس محوا أو طمسا أو تصويبا له، بأي حال.
باختصار
إذا كانت الممارسة الديمقراطية، كما حددها الدستور ذاته، تقوم على أساس من احترام حق المواطن في الاقتراع السري المباشر في التصويت، انتخابا واستفتاءا، وبكيفية أو مسطرة إجرائية صارمة لا يجوز مخالفتها والانحراف عن خطها المرسوم قبلا، فإن أي خطوات تحشيدية و" تعويضية " لاحقة ليست إلا دليلا، إضافيا، على المخالفة والانحراف.
وبتعبير آخر، وأخير : إذا كان برهان حلاوة العسل هو العسل نفسه، حسب ابن عربي، فإن برهان مخالفة الدستور هو - قانونيا - حشد السبعين " العلني " نفسه، مهما كان حجمه.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
إذا يدك تحت الحجر اسحبها ببصر
نقطة فوضى!!
وسيلتان للخلاص