سنوات طويلة، اعتدنا نحن الذين نتابع الأخبار رؤية مشاهد المجاعة في دول أفريقية عدة كان لها تاريخ طويل من الحروب والمعاناة. لم تنته الحروب في القارّة الأفريقية، وكذلك الأزمات الغذائية والمجاعة، ولم تختف الصور، لكن تأثيرها كان يتلاشى تدريجياً بعدما تحوّلت إلى صفة تلتصق بعدد من بلدان القارّة.
يتكرّر اليوم هذا المشهد في غزّة. لا تكاد تمر ساعة خلال الأيام الأخيرة إلا وتنتشر فيها صورة جديدة لأطفال التصقت عظامهم بما تبقى لهم من لحم بعد خمسة أشهر من العدوان وحرب الإبادة والتجويع. يموت الأطفال والكبار من الجوع. وهذه حقيقة وليست تعبيراً مجازياً. ومن يبقى منهم على قيد الحياة يكاد لا يقوى على الصراخ، رغم كل الآلام بعدما نال الوهن منهم.
يملّ المرء من كثرة تكرار الحديث عن الخذلان الذي تتعرّض له غزّة منذ بدء العدوان، لكنه يترافق في كل فترة مع ظاهرة جديدة، عنوانها هذه الأيام الإهانة والإذلال عبر إسقاط المساعدات جواً. في المرّة الأولى التي بدأ الحديث عن إنزالها، هناك من ظنّ أنها ستتضمّن مساعدات إغاثية كبيرة تشكّل كسراً لو جزئياً للحصار الخانق على القطاع، خصوصاً في الشمال، حيث الكارثة تسوء بتسارع يومي. لكن سرعان ما تلاشى "حسن الظن" هذا، إذ تبيّن أنها وجبات غذائية، تسقط بمظلات وبكلفة باهظة لا تعادل قيمة الوجبة، هذا طبعاً من دون إغفال ما سقط منها في البحر أو في أماكن إسرائيلية بسبب "الرياح".
صحيحٌ أن هذه الوجبات تحتوي على قيم غذائية يحتاجها الفلسطيني للبقاء على قيد الحياة لليوم التالي فقط، خصوصاً في الشمال، لكنها ليست المطلوبة لإنقاذ أهالي قطاع غزّة الذين يواجهون الأسوأ كل يوم. المطلوب جلي؛ مساعدات طارئة تكفي حاجات الأسر كاملة، لا فرداً واحداً منها أو وجبة تحتاج إلى أجهزة تسخين في الوقت الذي يفتقر الأهالي لما يُشعلون به النار. والمطلوب أن تتدفق المساعدات بالأطنان يومياً وبلا انقطاع، وليس بالقطّارة كما يحدُث حالياً.
يتمّ إسقاط المساعدات جوّاً بالتنسيق مع الاحتلال، تماماً مثلماً يتطلب إدخالها برّاً. لكن من الواضح أن السلطات الإسرائيلية لا تريد أن تسمح بأي مساعداتٍ حقيقيةٍ للفلسطينيين، وهي تدرك جيداً أن من يتحكّم بمعبر رفح لا يملك أي جرأة لإدخال نقطة ماء، وليس كيس طحين من دون إذنها. كما أنها مطمئنة لحقيقة أن التصريحات المنتقدة لها من بعض الدول الغربية، والمطالبة لها بالسماح بإدخال المساعدات لا تستحقّ الالتفات لها، طالما أنها لن تقترن بإجراءاتٍ أو عقوباتٍ لفرضها. وطبعاً، لا داعي للتوقّف عند المواقف العربية، لأنها لا تقع في حسبانها من الأساس.
حتى أن الإجرام بلغ حد قصف الاحتلال وقتله الفلسطينيين، بينما يقفون في طوابير ينتظرون الحصول على المساعدات على قلّتها، ثم يخرج بكل وقاحة لتبرير مجازره وهو يدرك جيّداً أنه لن يلقى سوى إدانات لفظية، طالما أن هناك من يحميه في مجلس الأمن، ويفشل حتى إدانة الجريمة التي يكرّرها المرّة تلو الأخرى.
كل من يساهم في السماح للاحتلال بممارسة هذا التمادي هو شريكٌ في جرائم الإبادة والتجويع ضد الفلسطينيين، ولا فرق هنا بين دول عربية أو إسلامية أو غربية، فالجميع، في الصفحة نفسها، مجرّد متواطئين ضد أهالي غزّة. يساهمون في إطالة الأزمة والمجازر والتجويع والحصار.
يجري الحديث اليوم عن إنشاء طريق بحري من قبرص إلى غزّة واستخدام الأمم المتحدة طريقاً عسكرياً إسرائيلياً متاخماً للقطاع لتوصيل المساعدات إلى الشمال. يبتهج مسؤولون أمميون بحديث إسرائيل عن استعدادها للتعاون في هذا السياق، ويجدون دائماً تبريراتٍ جاهزةً من قبيل أنه من دون تعاونها طرفٌ أساسيٌّ معنيٌّ لا يمكن تحقيق ذلك. وهنا تحديداً المشكلة، التعاطي مع إبادة القطاع على أن جميع الخيارات لتجاوزها يجب أن تمرّ عبر الاحتلال.
(العربي الجديد)
اقراء أيضاً
مهزلة الرصيف العائم
المنظور الأميركي للمحكمة الجنائية الدولية
انتفاضة الجامعات الأميركية