تجسّد المشاهد الآتية من جامعات عدة في أميركا، بما في ذلك جامعة كولومبيا، أوضح صورة عن التضامن الشبابي الطلابي مع القضية الفلسطينية وأهميته. صحيحٌ أن الطلاب ينطلقون في حراكهم من رفض العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزّة، وتحرّكهم المجازر اليومية المستمرة منذ أكثر من ستة أشهر بدعم وغطاء غربي يخفّ حيناً لكنه لا يتلاشى، ويتكيّف مع كل مرحلة، لكن الصحيح أيضاً أن حراكهم يعبّر عن رفض موقف الإدارة الأميركية الداعم لإسرائيل إلى أقصى مدى ممكن، بحيث تصبح المجازر بحق الفلسطينيين مجرّد وجهة نظر، وكذلك المقابر الجماعية، وتبرئة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من جميع مزاعم الاحتلال.
وبالنسبة لإدارة بايدن، وحدها سردية الاحتلال تستحق الترويج، بغض النظر عن حجم الأكاذيب التي تحتويها ومستوى التضليل الذي يعتريها. كما أنهم ينخرطون في المواجهة انطلاقاً من وعيهم أن انتقاد جرائم الاحتلال اليوم لم يعد كافياً، وإنْ كان مهماً، ولذلك لا بد من إجراءات ليس أقلها مطلبهم بوقف استثمارات الجامعة في دولة الاحتلال.
وفي صلب هذه الأحداث، وجد الطلاب أنفسهم حكماً يخوضون معركة أخرى لا تقلّ أهمية ضد قمع رأيهم ومنعهم من الحراك. وهم يدركون جيداً أنه إذا كان العنوان اليوم القضية الفلسطينية والمجزرة في غزّة، فإنه قد يتغير بعد سنوات، وتحلّ حرب وإبادة أخرى، لكن القيود قد تصبح أشد في حينه، إن سمحوا للسلطات بالتمادي في أساليب الترهيب والقمع.
و"الجيد" أنه كلما زادت حملة التحريض والتشويه ضد الطلاب، تمكن ملاحظة اتّساع الحركة الاحتجاجية، حتى إن هناك من بات يشبهها بما جرى في 1970 إبان الاحتجاجات على حرب فيتنام. وليس الانقسام اليوم بشأن العدوان على غزّة بأقل مما كان عليه إبان الحرب الأميركية في فيتنام، وإن كانت الاختلافات حاضرة، ولا يمكن القفز عنها، لا سيما لجهة الانخراط الأميركي المباشر يومها بينما تقف واشنطن اليوم شريكاً سياسياً وعسكرياً في جرائم إسرائيل.
يبقى أن ما جرى في جامعة كولومبيا في الأيام الأخيرة الأكثر إثارة للدهشة والاستغراب. وليس مردّ ذلك فقط إلى حجم الحراك، الآخذ بالتصاعد، ونوعية المطالب المرفوعة من الطلبة، والتي تعكس حجم وعيهم السياسي، بل أيضاً إلى ممارسات رئيسة الجامعة نعمت شفيق، التي وضعت حماية رأسها والحفاظ على منصبها أولوية، على عكس رؤساء جامعاتٍ آخرين اختاروا مواجهة صلف أنصار إسرائيل في الكونغرس وفي الإعلام، ودفعوا أثمان ذلك مناصبهم التي عملوا جاهدين للوصول إليها، بعدما نال منهم التحريض ما ناله، من دون أن يدفعهم ذلك إلى التنازل عن مبادئهم ليس دفاعاً عن القضية الفلسطينية، بل بشكل أساسي عن مفاهيم ومبادئ وحقوق أساسية كانوا يرون أنه لا يمكن التفريط بها، من بينها الحق في التعبير والاختلاف.
بلغت الوقاحة بنعمت شفيق حد استدعاء شرطة نيويورك إلى داخل الحرم الجامعي لطرد الطلاب، لتؤجج عملياً الاحتجاجات عوضاً عن إخمادها كما كانت تأمل. وما أقدمت عليه يؤسّس في نظر الطلاب لمرحلة جديدة غير مسبوقة، أقله في السنوات الأخيرة من محاولات إسكاتهم. ولذلك يتصدّون اليوم لما يجري ضدهم لمنع تحقيق أكثر من هدف.
والمهم أيضاً في حملة التصدّي أنها أظهرت بوضوح كيف أنه لم يعد من الممكن اليوم إسكات أي انتقاد لإسرائيل وجرائمها بحقّ الفلسطينيين بذريعة معاداة السامية... تلك التهمة الفضفاضة التي كان في الماضي يكفي رميها ليرتعب من يتعرّض لها وتشلّ حركته. ولكثرة ما استخدمت هذه التهمة، باتت الجرأة في التصدّي لها أكبر ليس فقط في أميركا، بل أيضاً في دول أوروبية عدة تسير حكوماتها والقوى الداعمة فيها لإسرائيل على النهج نفسه.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
مهزلة الرصيف العائم
المنظور الأميركي للمحكمة الجنائية الدولية
ازدواجية الحوثيين