بعد 139 يوماً على المجزرة في غزّة تبدو الكتابة عنها كفعل ضرورة، وإن كان الإحساس المتعاظم بقلة الحيلة تجاه ما يجري في القطاع يعيد إحياء أسئلة تكاد لا تنتهي عن أسباب هول حالة الاستسلام السائدة في العالم العربي، إذ لم تعُد تجدي محاولات التفسير أو التبرير؟ كيف أمكن التخلي عن غزّة منذ اليوم الأول؟ ولو كان ردّ الفعل على العدوان مختلفاً منذ بدايته، ألم يكن من الممكن تفادي هذه اللحظة؟
في الأسابيع الأولى، كانت صور المجزرة تطغى على ما عداها لكنها لم تستدع أكثر من مواقف مندّدة ودعوات خجولة إلى وقفها أو الحدّ منها. كانت بعض الدول العربية تراهن تماماً مثل الاحتلال والولايات المتحدة وباقي الحلفاء على "انتصار" إسرائيلي سريع يخلّص الجميع من حركة حماس.
لكن هذه الرهانات سقطت، بينما مضت آلة القتل والتدمير الإسرائيلية في جرائمها. واليوم تتزاحم مشاهد الإبادة وحصار المستشفيات مع صور المجاعة وأصوات الاستغاثات التي تملأ القطاع.
الأم التي تتحدّث كيف أن طفلتها تأكل يديها من الجوع وتلك الطفلة التي تتحدّث وكأنها تبلغ من مائة عام وهي تقول "جعنا بدنا نأكل" تختصران كل الحكاية. لم يعد أهالي غزّة يفكرون بمنازلهم المهدّمة وأقاربهم الذين يتحلّلون تحت الأنقاض والبرد، بل ينشغلون فقط بما إذا كانوا قادرين على إيجاد لو قليلا من الطعام للبقاء على قيد الحياة. وإذا لم يعد لسكان غزّة من خيارات، فإن لكل العالم من حولهم خيارات لنجدتهم.
يُخبرنا الأردن المرّة تلو الأخرى أنه أنزل مساعداتٍ طبيةٍ عاجلة جوّاً إلى غزّة، وذلك بالطبع بتنسيق مع سلطات الاحتلال، وإن لا يقول المسؤولون الأردنيون هذا، وبذلك لم لا يتم إنزال مساعدات إغاثية جوّاً لأهالي القطاع؟
تلوك السلطات المصرية منذ بدء العدوان سردية أن الاحتلال من يعطّل إدخال المساعدات إلى غزّة بسبب إجراءاته الأمنية. وما كان يمكن إيجاد مبرّرات له خلال الفترة الأولى عندما كانت هناك مفاوضاتٌ ليس قابلاً اليوم لأي تفهّم. ما الذي تنتظره مصر لإدخال المساعدات مباشرة نحو القطاع. هل يجب ترقّب أن تنتقل وفيات الجوع من العشرات يومياً إلى المئات والآلاف.
أما برنامج الأغذية العالمي، فقد أعلن عن وقف إدخال المساعدات على قلتها إلى الشمال تحديداً. إذا لم يكن على وكالات الأمم المتحدة العمل في ظروف صعبة وغير مستقرّة فمتى يمكن توقع عملها في أيام الرخاء!
كل ما يجري في غزّة اليوم يُترجِم رغبة في إبادة سكان هذا القطاع. ورمي المسؤولية فقط على إسرائيل لم يعد في محلّه. تلك القائمة الطويلة من الدول، التي يمكنها التحرّك على الأرض أو الضغط بالأفعال، وتكتفي ببيعنا تصريحات، شريكة في الجريمة.
وليس يأساً أو مبالغة أو مهما كان التوصيف القول إن الشعوب العربية مسؤولة أيضاً. يكاد حجم الحراك في الشارع العربي للضغط على وقف المذبحة في غزّة يكون معيباً مقارنة مع ذلك الذي تشهده العواصم الغربية.
كيف يمكن أن يحدُث هذا بينما تكبر المأساة والمجزرة، وإذا كانت فعلاً فلسطين قضية الشعوب لا الأنظمة، فأين هي هذه الشعوب؟ قد يقول بعضهم هل يمكن توقّع ممن استكان لكل الأزمات في بلاده أن يتحرّك في الشارع لأجل غزّة.
نعم، يمكن ذلك، إذ أقله يفترض أن القضية الفلسطينية تتخطّى الانقسامات السياسية في جميع البلدان العربية. ولكن ذلك لم يحدُث بعد 140 يوماً على العدوان.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
مهزلة الرصيف العائم
المنظور الأميركي للمحكمة الجنائية الدولية
انتفاضة الجامعات الأميركية