في غمرة الحروب التي تطمر عالم الشرق المسلم اليوم، ومع براكين الفتن والصراعات المذهبية والقومية؛ تتزايد صراعات الحوار الثقافي بين المسلمين أنفسهم وتياراتهم المتعددة، وبينهم وبين ما يُطلق عليه مثقفو قابلية الاستعمار، هذا الجدل الحاد والصراع القديم الجديد جزءٌ من أزمة تفكير المسلم المعاصر، وهو يستدعي السؤال المتجدد: هل أزمة المسلمين أزمة ذاتية أم مؤامرة دولية؟ وما هو المخرج من هذه المعضلة التاريخية للشرق الإسلامي؟
وبين فريقين يستعران في كل اتجاه؛ تتداخل قضايا وتشتبك أخرى، فيتيه عقل الشباب المسلم المعاصر أمام هذا الجدل العبثي، وذلك لأن أصول تنظيم الحوار فيه، وفرز مسارات الخارجي والذاتي للمسلمين، لا تخضع لقيم عدالة ولا موضوعية، ولا حتى إحصاءات موثقة، ويُخلط جزءٌ من الحقيقة بجزءٍ من الخطيئة، ومساحة من المصداقية مع مساحة من البروباغندا الإعلامية واللسان الحاد المعتدي.
وتتضح هنا آثار غياب استقلال الخطاب العربي، وتأثيرات الداعم المستبد، أو الخشية من بطشه، على منعطفات هذا الحوار أو الصراع الكلامي، ولذلك فإن كلا الفريقين في الوطن العربي تدافع شريحة كبيرة منهم عن الأنظمة في ذات شقيْ الصراع والجدل.
وتستميتُ مجموعات وأفراد منها في اتهام هذا المشروع الديني أو المشروع التغريبي، بحسب توصيف كل تيار أنه مناهض للحكم، ويتوسلون لذلك بكل وسيطة جدل، فيما معيار التقييم -وهو مساحة التقدم والاستقلال للأمة أو القطر الوطني، ومسؤولية الحكم فيه- لا محل له من الإعراب لديهم.
بل يصل هذا الانحطاط الثقافي لا لقضية التترس بالنظام الرسمي "أ" أو "ب" فحسب، وإنما بقولهم إن هذا المشروع المعادي -سواء كان مشروعاً محافظاً أو مشروعاً تغريبيا (بحسب توصيف فريقيْ التخاصم)- يهدد هذه السلطة المسكينة! فيما المتابع البسيط يُدرك أن هذا المشروع في حقيقته يحرك من عباءتها ذاتها أو في هامشها.
وقد توسعت هذه الأزمة المعرفية، واستخدِمت فيها أقلام وشخصيات تحت هذه الراية أو تلك، فيما غاب حق الشعب ومصالحه وتقدمه المعرفي، وتقنياته الثقافية، ورفاهه التعليمي والاقتصادي، وقوة استقلاله الدفاعي المنهارة، كلها بريئة منها هذه السلطة العربية، في حرب التيارات!
وأمام هذه الفتنة يتيه الشباب عن حقائق يقينية كبرى، وحين يُدركها يبدأ في رسم وعيه المعرفي لأزمة الإنسان في الوطن العربي والشرق الإسلامي في بلدان عدة، وهو يعيش بين كماشة الاستبداد الباطش بحقوقه المصادر لها، وهيمنة الخارج الظالم المعتدي على سيادته وحرية استقلال سياسة وطنه.
وتحرير هذه المسألة -التي تتطلب بالضرورة التجرد والانفكاك من مساحات المزايدة باسم السلطة والنظام- أن حاضر العالم الإسلامي يعاني من الكارثتين، الاستعمار السياسي والاقتصادي، والتدخل العدائي ضد مصالحه وحرياته.
ويعاني كذلك من أزمة التخلف السياسي والمعرفي، وغياب صناعة قوة الذات التي بموجبها يستقل بناؤه ويصنع دولته لأجيال العرب القادمة، كما هي حاجة رحلة الشرق الإسلامي، منذ مرض الدولة العثمانية القديم وانتشار الاستبداد والفساد والتخلف فيها، إلى تهديد الواقع الجديد.
ويجب التنبيه هنا إلى أن جزءاً من معارك الجدل -التي نشأت إبان صعود فكر النهضة العربية- بين المحافظين والتجديديين، خلاف حكمه سوء الظن المسبق، وعدم التروي في فهم دوافع البحث عن النهضة، واحتياجات الأوطان والأمة.
وكان من أنصار التجديد حركة إحياء إسلامي أدركت الخلل الذي أصاب الأمة بل شوه الدين بربطه بنموذج التخلف الخادم للاستبداد، كما أن مساراً من مثقفي النهضة كان يؤمن بحقيقة تميّز الرسالة الإسلامية وحق شعوب العرب في الارتباط بها.
لكن صراعه كان مع صور التخلف، وهو ما تسبب في معارك فكرية أضّرت بوعي الفرد العربي، وخدمت زوايا التطرف من الجانبين، فبرز صوت المنادين بالالتحاق الكلي بالسياسة والفكر الغربي، ومنتجات أخلاقه الأسرية والمجتمعية، فيما قُدمت صورة المناهضين لهم -وهم مستويات مختلفة- أنهم جماعات ضد النهضة والتقدم المدني الحقوقي والمعرفة.
وخسر العالم العربي في حينه مساحة من التوافق الفكري، لو جرى عبرها حوار موضوعي لوصلت قطاعات مهمة من صنّاع فكره إلى تحرير الخلاف، والبناء على الاتفاق الثقافي النهضوي الذي تحتاجه الأمة، وهو متطلب الإسلام للعمران.
إن عواصف هذا الجدل المستظلة اليوم بفيء السلطة لا ترسم خريطة مخرج، وإن صدق بعض حديثها هنا وهناك، فتحريرُ العقل من قيد السلطة شرط أول للنهضة، وقد يضطر المثقف إلى تمرير فكره دون مصادرة المستبد فيتجنب مصادمته، وهذا مفهوم تماماً.
أما التولّه به والدفاع عنه لا عن مصالح الأوطان والشعوب، والتزلف له لمقارعة خصومه من التيارات، فليس ذلك مؤهِّلاً لسماع رأيه، وصناعة خطاب الاستقلال أو المعرفة به، بل هو محل شك في هذه الكتلة الصوتية، أو ذلك القلم المبارز تحت راية التزلف.
ولسنا هنا نضيّق على الناس مساحة ما يطيقون من رأي يبصّرون به الناس، ولا منعهم من استغلال مخاوف السلطة لدفعها إلى أدنى عمل يعزز استقلالاً، أو يفتح باب إصلاحٍ أو مساحة تتنفس منها الشعوب، وإنما نعني هنا من جعل حصيلته هتافاً باسم الولاء للمؤسسة الحاكمة لتسويق رأيه، وترويج حديثه للدفاع عن ذاتها، لا مصالح الشعب والقطر العربي.
وهي مفسدة شاملة استقرت في أوطان العرب منذ عقود من جمهوريات إلى ملكيات، وأصبح نداء الإصلاح أو الاستقلال المستقل بمبدئه غريبا مطارداً.
وأمّا التحرير الموضوعي لسؤال المقال فهو يندرج في كِلا خطيه، الاستقلال عن الخارج المهيمن على الشرق بالباطل، وواقع الداء الشرس الذي فتك بالعقل المسلم المعاصر ولا يزال، ولو أردنا أن نضع خريطة لذلك فلربما لخصناها في الآتي:
1- ما يجري من سطوة غربية واستنزاف لثروات الشرق في العالم الجنوبي ليس مشاعر عاطفية ولا مبالغات، وإنما هو تاريخ ضخم من الحقائق، كما أن إحصائيات الحروب وما جرى للعالم الجنوبي من تدخلات الغزو بشقيه الصليبي التبشيري والاستعماري منذ 800 عام، أي قبل تنفيذ أي أعمال غلو أو تطرف إرهابية من بعض أبناء المسلمين.
هي حقائق لا يمكن أن تسقط من التاريخ، ولا من وعي الإنسان المطلق، وهي مفهوم ثابت في حركة الاستقلال الإنساني في العالم، فكيف يُطلب من العالم الإسلامي تناسيها.
2- هذا النشاط الاستعماري السياسي والعسكري تصاحب فعليا مع برنامج ثقافي كان يهدف لتوطين الاستعمار، غير أن ليس كل ثقافة عابرة من الغرب هي محض مشروع تبشير، بل جزءٌ منها تناقلات معرفة وحضارة، وتجربة جديرة بالاستفادة.
وأما ما يُسيس منها لصالح المستعمر وروج له المستشرقون خاصة في دونية الشرق الذي بني عليه تشريع الغزو الغربي، وتسويق استحقاق الجنوب للاستعمار لتخلفه الذاتي، فهو جزء من ثقافة الاستعلاء والتوحش "الحضاري" الكاذب، أي الذي قُدم باسم الحضارة وراح ضحيته ملايين البشر من شعوب الجنوب.
3- التقدم النهضوي لشعوب الشرق والعالم الجنوبي جزءٌ من شروطه المجرّبة القدرة على الاستقلال عن نفوذ القوة الاستعمارية الخارجية، العسكرية والسياسية والاقتصادية، فهذا الاستقلال مدخل لتحقيق النهضة والتقدم للقطر الوطني.
4- أما المعرفة الإنسانية ومسالك التجديد الفكري لثقافات الشعوب، ففيها ما ارتهن لنظرية تفوق الغزو الأجنبي، دون فرز وتمحيص أو قياس راشد، وهناك من أدرك أن هذه الثقافة والمعرفة أعطت تقنيات صناعية وتعليمية ومساحة تمدن، وحركّت بين البشرية مسارات فهم جديد يمكن أن تأخذ بها الشعوب، دون أن تُسقط أصول ديانتها ولا هويتها، وإنما تحرك الحداثة وتوسّع آفاق المعرفة، وتتحاور داخليا ولا تتصارع، لترسم خريطة النهضة بين الروح الفكرية المتميزة للإسلام وشروط الحداثة والتقدم وسعة العلم المعرفي الإنساني.
5- هناك فريق هو غالبا تحت رداء السلطات المحلية لا يدافع عن مشتركات البشرية بقدر ما يقاتل عن الارتباط السياسي والثقافي المطلق بالآلة الغربية، بل بات مروجاً للمشروع الإسرائيلي بسبب شعوره برابطه المصيري، بعد أن استوحش من قيم الشرق وتمكنت منه فكرة الهزيمة حتى تحولت إلى عقيدة أيديولوجية لا يستطيع الفكاك عنها، وموقفه من المرأة نزوة مطلقة بلا حدود، لا حريات سياسية وحقوقية.
6- هناك خط آخر من تيارات عروبية وعلمانية، إنما تختلف مع تراث الشرق وبنية الخطاب الديني الأيديولوجي الذي وظفه الاستبداد ضد كل إصلاح ثقافي، ولديها قناعة بحق الشعوب المسلمة في الحفاظ على رسالتها، وليست معادية لها.
وتبقى هناك مساحة أخذ ورد في إداك هذه التيارات أو التكنوقراط لما يمكن تنفيذه من مشاريع الشعوب الإصلاحية والمعرفية، التي يَندب إليها الإسلام ويُسخّر لها اجتهادات واسعة، فيما تفوت هذه المعاني على هذه التجمعات بسبب الالتحام مع التيارات الدينية المحتربة معها.
7- تقف في الصف المقابل تكتلات دينية بعض خطابها واستدعائها للتاريخ صحيح، وبعضه مزايدات وخلط فوضوي، كما أن الدين الذي تستبيح مخالفيها باسمه دينٌ مذهبي تم تعديله سياسيا ومجتمعيا لتحالفات الاستبداد، وليس رسالة الإسلام الحق، فيرى كل تثقيف معرفي ودسترة حقوقية ومساحات للحريات الشخصية محضَ مؤامرة غربية.
ويقاتل بكل صلف لمنع المرأة من حقوقها، ومن رفع البغي الذي هو جاهلية كبرى في الإسلام، باسم الدين الذي استبدل به الشريعة، وأضحى يدفن المرأة ويئد الفتاة باسم صيانتها، وهكذا يخلط الخطاب ويَتهِم كل من يدعو إلى حقوق المرأة، فهو مشروع تغريبي لديه، ويتنافس مع الفريق العلماني المتطرف في التحريض باسم السلطة.
وتعبر العقود في هذه الموجات الموجهة بعضها من الصراع السياسي، ويُغفَل عن صناعة فكر المعرفة، ودسترة الحقوق وإصلاح الأوطان وأنسنة المواطنة التي جعلها الله مكرّمةً استقلالاً دون رضا السلطة، فيزداد المجتمع ضعفا واحتراباً، ويتمكن النفوذ الغربي بسياساته مع المستبد المحلي، وبخدمة أقلام المتولهين به، وبخطايا خطاب ديني منحرف فتن الناس، وفتّ من عضد المجتمع، وأشغله مع خصمه الموالي المطلق للغرب عن النهضة وإعادة صناعة العقل المسلم.
هنا بالإمكان أن نقول إن وعي هذا المسار المزدوج هو المدخل لإدراك الشعوب معنى طريق الحرية والنهضة واستقلالها وانتصارها السياسي، وهو صناعة العقل والوعي الجديد، وأسباب النهضة والحداثة والمواطنة الدستورية، التي هي طريق الاستقلال وطنيا وعروبياً وإسلامياً، أمام الصلف الغربي واستنزافه المستمر، أو ما يُسخرّه من حروب طائفية تخدمه.
أما الظواهر الصوتية والتعلق ببعض تاريخ المسلمين الذي لا تزكيه شرعية ولا عقلية له، إنما هي مشاعر عاطفة جيّاشة بسبب الهزيمة التي يعيشها حاضر العالم الإسلامي، وبسبب فشل تجربة هذا البلد أو ذاك، فيُستدعى التاريخ لتعويض الاستقلال السياسي الحقيقي.
وهي رحلة تبدأ اليوم في زمن حزين وواقع منهار، لكن أول شروط التصحيح لصناعة النهضة المستقلة هو نشر هذا الوعي بين الشباب، واحتضانهم في معركة الصناعة الفكرية، وإنقاذهم من أعاصير الرياح الصوتية التي لا تصنع وطنا حراً، ولا ترساً مستقلا أمام النفوذ الغربي ونهبه الأسطوري، وإنما هي تنفيس مرضي يُصارع ذاته، فيسقط الإنسان قبل أن يسقط وطنه.
*الجزيرة نت
اقراء أيضاً
اليمن والخلاف الخليجي الجديد
عودة الرئيس علي عبد الله صالح
صورة السعودية الجديدة في المسرح الدولي