أشدّ إيلاماً من قراءة التحليل السياسي لأزمة أي قُطرٍ عربي دلائل السقوط في مآله المستقبلي، وأعتقد أن اليمن اليوم في صورةٍ غايةٍ في التعقيد، لتحديد اتجاه مستقبله القومي. وكنتُ قد كتبتُ، قبل عدّة أعوام في نداء وجّهته إلى شباب اليمن، أن هناك ضرورة لتأسيس ثقافي، يستبق مرحلة ما بعد الحرب، يُحقق للشباب تأطيراً فكرياً يجمع شعث الشباب، وآلام ما بعد فراق الأحبّة الذين سقطوا في الحرب، أو الحروب التي جُيّرت لحساب مصالح الأطراف الأخرى في إيران ودول الخليج العربي.
ولا أزعمُ هنا، مطلقاً، القدرة على تحديد مستقبل المشهد اليمني، أكثر من أبنائه المتمكّنين من الرصد والتحليل السياسي الواقعي، ولكنني إذ أذكّر بصناعة الأرض الفكرية التي يحتاجها كل وطن، للبدء بالخروج من عنق الزجاجة، والتوجّه إلى حيث ضوء نفقٍ في آخر العتمة، فإن هذا الاستباق في التحرير الفكري لواقع اليمن الأسيف قد يُساعد في وضع منهجٍ جامعٍ، يُؤسّس في ضمير الشباب معنى مشروع الدولة المدنية، التي تتّسق مع قيم الشعب المسلم، وعروبته العريقة، وتفهم كيف تُكيف منظومة الدولة والحقوق الدستورية، مع الحياة الاجتماعية القبلية، وتنجو من تدخّلاتها الشرسة والضخمة في تاريخه القديم والحديث، وتحقق المعايير المدنية الحقوقية للجميع، شركاء الأرض والمصير، بل والأصل الاجتماعي الموحّد في الإنسان والعروبة والإسلام.
فهنا نطرح متطلب العبور المرحلي والنسبي نحو الاستقرار السياسي الاجتماعي، وتحويل قدرات الإبداع اليمنية التي رأيناها في الشباب اليمني، في المهجر التركي والغربي، إلى سواعد بناء، من خلال ورش تفكير تجمع أقصى قدر من المختلفين، والذي يتّسع فيه الخرق على الرقعة بصورة مطردة، وخصوصا بعد بروز عواصف ضخمة جديدة من الصراع الفكري، بين شباب اليمن، بعضها عن أصل تاريخ التشريع أو ميراث التراث المذهبي، وبعضُها على هوية الشعب وعلاقته بين الدين أو تحييده، فاليمن اليوم لأسبابٍ تخصّ طرفي الحرب في الرياض وطهران، والموقف الدولي العام، يتوجّه إلى وقف الحرب المركزية، وتعنّت الحوثيين في موقفهم، هو لتحصيل قيمة مجزية للنصر العسكري على الحلفاء، وعلى الشرعية التي اُلحقت بالعربة الخلفية للحلفاء، ولم تستقل بسيادتها مطلقاً، وساهمت صراعاتها، ومحسوبيّات أضلاعها، في مرونة تسخيرها متطلبات كل مرحلة يحتاجها التحالف. ولذلك مسألة تصفية وجود الحكومة الشرعية، وهي الغطاء الأخير، لليمن الجمهوري القومي المستقل، مسألة وقت فقط، وآمل أن أكون مخطئاً.
ونجاح مسقط في إعلان إنهاء الحرب تساعده رغبة الرياض المتعاظمة، في وقف تكلفتها الكبيرة، باتفاق تأمين الحدود الجنوبية لها، ولن تكون هناك مساحة للقيادة الشرعية، إلا في رتوشٍ تستحقّها المرحلة، قبل أن يُطلب إلزاماً منها إصدار البيان المتمّم، لبيان الرئيس المختفي عبد ربه منصور هادي، فتنتهي حكاية الشرعية. والقول إن الشرعية قادرة على تعطيل استنزافها قد يصحّ، ولكن ذلك لا يمكن أن يتحقّق من دون أن تستقل الشرعية بأرض مستقلة عن الحلفاء، وأن يكون الاتحاد بين أطرافها حقيقياً ولو نسبياً، وهذا لا وجود له.
ومع بروز الخلاف السعودي الإماراتي على السطح، فإنه يكتسب أهمية بالغة وخطرة في الوقت نفسه، فهو أصبح واقعاً مؤثراً في أكثر من ملفّ، ولكن اليمن هو الملفّ الأكثر تفاعلاً معه. ومصدر الخلاف يقوم على مصالح البلدين، لا مصالحهما المشتركة مع اليمن الموحّد فدرالياً أو مناطقياً، وهو مشروع كان من الممكن أن يتحقّق لو كانت عند محور أبوظبي القديم نيات حسنة، وهو المحور الذي انهار بعد انتهاء الأزمة الخليجية.
لن يعطّل خلاف أبوظبي والرياض مسار وقف الحرب، ولكنه سيُعقّد الساحة اليمنية بين الجنوب والشمال، وبين الشمال والشمال، وبين الجنوب والجنوب وخصوصا مع حضرموت، وهو ما يعني تهيئة مساحة ضخمة أمام تقدّم الحوثيين إلى جغرافيا الجنوب، فضلاً عن حسم بقية جيوب الشمال الشرعي في تعز وغيرها. والتجربة العربية المرّة في التعامل مع الأحزاب الطائفية الموالية لإيران، في العراق ولبنان، تؤكّد أن خروج الحوثي إلى فضاء عربي يمني مستقل، يحتضن الأطراف بعد انتصاره عسكرياً، وهمٌ كبير، فطبيعة الذات المؤدلجة للولاء لإيران تُحوّل الوطن والقومية والإنسان إلى أدواتٍ تحت عباءة ولي الفقيه ووكيله المحلي، نقول ذلك، وإن كنّا نرجو خلافه.
اندفاع الرياض إلى تحقيق اتفاقات ثنائية مع ايران، في مقابل ما حققته بقية الدول الخليجية، وبالذات خطة الإمارات أخيرا في تعزيز علاقتها بطهران، والعودة إلى السوق الإيراني الإماراتي المشترك، ليكون قاعدة التفاهم، وهو ما حفّز السعوديين، إضافة إلى صراع المركز الإقليمي الدولي للاقتصاد في الخليج العربي بين دبي والرياض، كلها ملفّات سترتدّ على اليمن كحديقة صراع خلفي. يضاف إلى ذلك ملفّ التسويات السعودية مع طهران، وخصوصا في سورية، وكلها مدارات حقّقت فيها طهران انتصاراً سياسياً، وبالذات بالعودة العربية الى تأهيل النظام الإرهابي في دمشق، والذي تقود ملفّه السعودية، فماذا سيتبقّى هنا للمساحة اليمنية مع الرياض؟ ما هو موقع الحجْر اليمني في مدرج اللعبة الكبير، واليمن روح وطنٍ عربي، أكبر من أن يسقط، لكنه يدفع إلى أتون حزنٍ عميق، لا يتوقّف دمعه؟
ولذلك، ثمة أسئلة كبيرة: كيف سيواجه التيار الشبابي الجديد، الذي يُفترض أن يولّد حضوره، بعد سقوط هذه الهياكل؟ وكيف يُعِد لمرحلة الكفاح الفكري والسياسي؟ وهل سيبقى الأمرُ مرتهناً، بالحروب القبلية التي قد تشتعل في الشمال، والتي تغذّيها الأطراف الخارجية لتغطية ما بعد الحرب المركزية، أم أن المساحات التي ستُخلق ما بعد الحرب، ووقف الحرب والعسكرة للمجتمع، وهو الجانب الإيجابي المشرق، ستفتح حينها قواعد التقاطعات، لإيجاد فضاء حراكٍ يجمع شتات اليمن الممزّق، الذي أسقطه الحلفاء والأعداء معاً؟
اقراء أيضاً
عودة الرئيس علي عبد الله صالح
صورة السعودية الجديدة في المسرح الدولي
التحالف مع الصهيونية بين الدين والإقليم