رغم جهود دبلوماسية مكثفة تُبذل للبحث عن مخرج مقبول لحرب إبادة جماعية تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ورغم نجاح هذه الجهود في التوصل إلى "اتفاق إطاري لهدنة طويلة"، ما زالت الأوضاع في المنطقة مفتوحة على كل الاحتمالات، بما فيها التصعيد واندلاع حرب إقليمية شاملة.
صحيحٌ أن جميع الأطراف المنخرطة مباشرة في هذه الحرب بدأت تُدرك أخيراً أن أيا منها ليس لديه القدرة على الحسم العسكري في الميدان، وبالتالي لا يستطيع فرض إرادته كاملة على الطرف الآخر، غير أن فجوة الأهداف التي يسعى كل طرفٍ إلى تحقيقها ما زالت غير قابلة للجسر، فالموقف الرسمي لإسرائيل ما زال يصرّ على عدم القبول بأقل من إلحاق هزيمة عسكرية شاملة بحركة حماس تؤدي إلى إخراجها كليا من معادلة الصراع، وضمان "تحرير" المحتجزين، وإعادة ترتيب الأوضاع في مرحلة ما بعد توقّف القتال بطريقة تضمن عدم تكرار ما جرى في 7 أكتوبر، وإعادة الثقة والشعور بالأمن إلى نفوس الإسرائيليين.
أما موقف "حماس" فما زال يصرّ على وقف تام لإطلاق النار، وانسحاب القوات الإسرائيلية نهائيا من القطاع، ورفع الحصار المفروض عليه، والشروع الفوري في إعماره، فضلا عن بدء عملية سياسية أكثر جدّية تتيح للشعب الفلسطيني ممارسة حقّه في تقرير مصيره.
حين أدركت حكومة الحرب الإسرائيلية عجزها عن استعادة الأسرى بالقوة، وراحت تتعرّض لضغوط داخلية وخارجية متصاعدة، بسبب مخاوف ناجمة عن غموض مصير الأسرى وتصاعد المخاطر المحدقة بالشعب الفلسطيني في غزّة، بدأت تشعر بأنها مضطرّة من المرونة دفعتها إلى تقبل فكرة "هدن إنسانية" قصيرة مقابل الإفراج عن رهائن.
ولأنه لم تكن لدى "حماس" مبرّرات تحول دون ذلك، أملا في تخفيف معاناة المدنيين والعمل على مدّ أجل هذه الهدن بما يضمن تحوّلها إلى وقف دائم لإطلاق النار، فقد أصبح الطريق ممهّدا للتوصل بالفعل إلى "هدنة إنسانية" استمرّت أسبوعا وشهدت الإفراج عن مئات الأسرى من الجانبين، وإدخال بعض المساعدات المحدودة إلى القطاع، غير أن استمرار التعنّت الإسرائيلي تجاه موضوع الوقف الدائم لإطلاق النار أدّى، في النهاية، إلى استئناف القتال، وبصورة أكثر شراسة مما كان قبل الهدنة.
للخروج من هذا المأزق، في ظل استمرار عناد حكومة حرب إسرائيلية يتحكّم فيها اليمين الديني المتطرّف، بدأ التفكير في صيغة جديدة تقوم على محاولة التوصل إلى "هدنة إنسانية طويلة الأجل"، وهي صيغة نجحت أجهزة المخابرات الأميركية والإسرائيلية والمصرية والقَطرية في ترجمتها إلى "اتفاق إطاري"، في اجتماع عقد في باريس الأسبوع الماضي، وتم تسليمه لكل من حركة حماس والحكومة الإسرائيلية لترجمته إلى اقتراحات إجرائية محدّدة.
وبينما تمكّنت "حماس" من صياغة ردٍّ مفصّل على هذا الاتفاق، بعد تشاور مكثف مع كل فصائل المقاومة والشخصيات المستقلة الوازنة، تضمّن، وفقا لما نشرته وسائل الإعلام العالمية، إجراءات محدّدة يجري تنفيذها على ثلاث مراحل، يستغرق تنفيذ كل منها 45 يوما، تتضمّن الإفراج عن عدد محدد من المحتجزين في قطاع غزّة مقابل عدد محدّد من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. تستهدف المرحلة الأولى الإفراج عن جميع المحتجزين الإسرائيليين من النساء والأطفال الذين تقل أعمارهم عن 19 عاماَ من غير المجندين، بالإضافة إلى المسنّين والمرضى. وتستهدف المرحلة الثانية الإفراج عن جميع المحتجزين من الرجال، المدنيين والمجنّدين على السواء.
أما المرحلة الثالثة فتستهدف تبادل جثامين ورفات الموتى لدى الجانبين بعد الوصول والتعرف إليهم. ولا تقتصر كل مرحلةٍ على تبادل الأسرى والمحتجزين فحسب، وإنما تشمل أيضا إجراءات تتعلّق بأماكن وجود القوات الإسرائيلية وتحرّكاتها في القطاع، من ناحية، وإجراءات أخرى تتعلّق بالأوضاع الإنسانية والحياتية للشعب الفلسطيني في قطاع غزّة من ناحية أخرى.
ولأن وسائل الإعلام العالمية نشرت ملحقا يتضمّن تصور حركة حماس لما ينبغي أن تكون عليه التزامات إسرائيل في المرحلة الأولى، فسوف يكون من المفيد أن نعرض لتفاصيل ما ورد في هذا الملحق، لأنه يعكس بوضوح منهج "حماس" ورؤيتها الاستراتيجية لما ينبغي أن تفضي إليه المفاوضات غير المباشرة التي تجري حاليا بينها وبين إسرائيل.
ففي ما يتعلق بالأسرى الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية، تطالب "حماس" بإفراج إسرائيل عن جميع الأسرى الفلسطينيين الذين جرى اعتقالهم حتى تاريخ توقيع هذا الاتفاق، من النساء والأطفال وكبار السن ممن تجاوزوا 50 عاما والمرضى، وبدون أي استثناءات، إضافة إلى 1500 أسير فلسطيني تسمّي "حماس" 500 منهم من المحكوم عليهم بمؤبّدات وأحكام عالية.
وتطالب بضمان عدم إعادة اعتقال الأسرى الفلسطينيين والعرب بتهم الاعتقال السابقة، وبالإفراج المتبادل والمتزامن بشكل يضمن الإفراج خلال المرحلة الأولى عن جميع المدرجة أسماؤهم في القوائم المتفق عليها مسبقا، وتبادل الأسماء والقوائم قبل التنفيذ. وتطالب، ثالثا، بتحسين أوضاع الأسرى ورفع الإجراءات والعقوبات التي تم اتخاذها بعد 7/3/2023، وكذلك وقف اقتحامات المستوطنين واعتداءاتهم على المسجد الأقصى وعودة الأوضاع فيه إلى ما كانت عليه قبل عام 2002.
وفيما يتعلق بالالتزامات الأخرى، تشترط "حماس"، أولا، وقف إسرائيل مؤقتا جميع العمليات العسكرية والاستطلاع الجوي، وإعادة تمركز القوات الإسرائيلية بعيدا خارج المناطق المأهولة لتكون بمحاذاة الخط الفاصل. وثانياً، تكثيف المساعدات الإنسانية الموجهة إلى القطاع، بإدخال ما لا يقل عن 500 شاحنة يوميا، مع ضمان عودة النازحين إلى بيوتهم وعدم تقييد حركة السكان وانتقالهم عبر جميع وسائل النقل.
وثالثا، فتح جميع المعابر مع قطاع غزّة، وعودة التجارة والسماح بحرية حركة الأفراد والبضائع من دون معوقات، خصوصاً في ما يتعلق بالانتقال من الجنوب إلى الشمال، ورفع أي قيود على حركة المسافرين والمرضى والجرحى عبر معبر رفح، وضمان خروج جميع الجرحى من الرجال والنساء والأطفال للعلاج في الخارج من دون قيود.
ورابعا، السماح ببدء أعمال إعادة إعمار المستشفيات والبيوت والمنشآت في كل مناطق القطاع، وتوفير وإدخال المعدات الثقيلة الكافية واللازمة لإزالة الركام والأنقاض، والسماح كذلك للأمم المتحدة ووكالاتها بتقديم الخدمات الإنسانية وإقامة مخيمات الإيواء للسكان، على أن يتم إدخال ما لا يقل عن 60 ألفا من المساكن المؤقتة، ومائتي ألف خيمة إيواء، وإقرار خطة إعمار البيوت والمنشآت الاقتصادية والمرافق العامة التي دمّرت بسبب العدوان بحيث تتم جدولة عملية الإعمار في مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات.
خامسا، بدء مباحثات تستهدف تحديد المتطلبات اللازمة لإعادة الهدوء التام، على أن يتم الانتهاء من هذه المحادثات قبل الشروع في تنفيذ المرحلة الثانية. وسادسا، أن تكون مصر وقطر وتركيا وروسيا والأمم المتحدة الأطراف الضامنة لهذا الاتفاق، ما يعني أن "حماس" لا تريد للولايات المتحدة أن تكون من بين الجهات الضامنة له.
وأخيرا، بدء محادثات غير مباشرة بشأن "المتطلّبات اللازمة لوقف إطلاق النار بشكل كامل"، جنبا إلى جنب مع المباحثات المتعلقة بتفاصيل الإجراءات التي ينبغي تنفيذها في المرحلتين الثانية والثالثة.
في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، عقب محادثاته، الأربعاء الماضي، مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بدا الأخير متحفظا على الأفكار والمواقف المتضمّنة في ردّ "حماس"، وهذا متوقع. ومع ذلك، لوحظ أنه لم يرفضها على إطلاقها واعتبرها بالتالي "قابلة للنقاش والتفاوض"، وهذا مثيرٌ للانتباه. أما نتنياهو فقد ظل متمسّكا بموقفه التقليدي الرافض وقف إطلاق النار والمصر على مواصلة الحرب حتى تحقيق نصر حاسم وكامل على "حماس".
ومع ذلك، يلاحظ أنه لم يذهب إلى حد الرفض الصريح والواضح لما جاء في رد "حماس"، ما يدلّ على أن جولات عديدة من مفاوضات طويلة وشاقة تنتظر جميع الأطراف التي شاركت في اجتماع باريس، قبل أن يصبح ممكنا الإعلان عن صفقة قابلة للتطبيق.
صحيحٌ أن الرد الفلسطيني يعكس ثقة كبيرة بالنفس، ويدلّ، بالتالي، على قوة الوضع الميداني لفصائل المقاومة ومتانته، رغم المجازر الهائلة التي ترتكبها إسرائيل في حقّ المدنيين، إلا أن الرد الإسرائيلي على المقترحات الفلسطينية يؤكّد أن نتنياهو ما زال قادرا على المناورة وكسب الوقت، فضلا عن أن رد بلينكن على المقترحات نفسها يوحي بأن الولايات المتحدة ما زالت عاجزة، وربما غير راغبة أيضا، في الضغط على نتنياهو لوقف حرب الإبادة الجماعية التي يشنها على الشعب الفلسطيني، ليس في قطاع غزّة فحسب، وإنما في مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلة. لذا يمكن القول إن نتنياهو يعتقد أنه ما زالت أمامه فسحة من الوقت، لا أظن أنها يمكن أن تزيد على أسابيع قليلة، تسمح له إما بالعمل على تحقيق إنجاز ميداني قد يساعده على تحسين شروط وقف إطلاق النار، أو محاولة دفع الأوضاع في اتجاه حرب إقليمية شاملة لا يريدها أحد سواه، ولأنه لن يستطيع تحقيق إنجاز ميداني عجز عن تحقيقه أكثر من أربعة أشهر، فالتصعيد وإمكانية تحوّل الحرب على غزّة إلى حرب إقليمية شاملة ما زالت احتمالا قائما.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
معضلة الوقف الدائم لإطلاق النار في غزّة
سمات الجولة الحالية من الصراع المسلح مع إسرائيل ومآلاتها
هل تنجح "العدل الدولية" في إسقاط القناع عن إسرائيل؟