لم تجرُؤ أي من الدول العربية على مقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، رغم أنه كان بمقدور عدد كبير منها القيام بهذه الخطوة البالغة الأهمية، فمعظم الدول العربية وإسرائيل أطراف في "اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية" التي تنصّ مادتها التاسعة على: "تعرض على محكمة العدل الدولية، بناءً على طلب أيٍّ من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير هذه الاتفاقية، أو تطبيقها أو تنفيذها، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية".
يعود هذا الإحجام إلى واحد من احتماليْن: خوفٌ من عواقب قد تترتب على إغضاب إسرائيل والولايات المتحدة، أو رغبة في منح إسرائيل ما تحتاج من وقت للقضاء على حركة حماس. ولأن جنوب أفريقيا هي الدولة الوحيدة التي جرؤت على الإقدام على تلك الخطوة الشجاعة، فلا شكّ أنها تستحقّ من كل أحرار العالم أن يشعروا تجاهها بعميق الامتنان، وخصوصا أن لإقدام هذه الدولة بالذات على مقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية دلالات عميقة لا تخفى على أحد.
كلنا نتذكّر كيف ثارت ثائرة الولايات المتحدة والدول الغربية عقب شنّ "حماس" عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فقد راح قادتها، وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي جو بايدن، يتقاطرون على زيارة إسرائيل، ليس لإظهار الدعم المعنوي لها فحسب، وإنما لمدّها بكل ما تحتاجه من إمداداتٍ عسكرية لكسب الحرب التي أعلنتها على قطاع غزّة. ليس هذا فقط، بل إنهم تبنّوا الرواية الإسرائيلية التي ادّعت أن "حماس" قطعت رؤوس الأطفال واغتصبت النساء، في محاولة مكشوفة للتغطية على هزيمتها وإظهار "حماس" بمظهر التنظيم الإرهابي الذي يستحيل التعايش منه وينبغي استئصاله. ولأنهم اتحدوا حول شعار "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، فقد وقر في يقين إسرائيل أن الفرصة باتت سانحة للتخلّص من الفلسطينيين، بإجبارهم قسرا على الرحيل.
الأخطر أن أوساطا أكاديمية في الغرب تخلت عن حيادها العلمي، وانساقت وراء هذا الشعار المزيّف والخادع، فها هو الفيلسوف والمفكر الألماني يورغن هابرماس يوقّع في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مع ثلاثة آخرين من كبار أساتذة الفلسفة السياسية في جامعة يورغن، بيانا يعبّرون فيه عن تضامنهم مع إسرائيل، ويبرّرون حربها الهمجية على سكان قطاع غزّة، ويصفون ما قامت به "حماس" بأنه "إعلان عن الرغبة في القضاء على الحياة اليهودية"، ويُبرّرون حرب إسرائيل على غزّة استنادا إلى "مبدأ التناسُب"، ويعتبرونها "عملا من أجل السلام"، ويستنكرون وصفها بـ"الإبادة الجماعية"، بل وذهبوا إلى حدّ تأكيد أن "الروح الديمُقراطية التى تأسّست عليها جمهورية ألمانيا الفيدرالية ترتبط بثقافة سياسية تعتبر الحياة اليهودية وحقّ إسرائيل فى الوجود عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة، فى ضوء الجرائم الجماعية التى ارتُكِبت فى العصر النازي". ... ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن تحظى الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بأهمية فائقة، لأنها تساعد، في الوقت نفسه، على دحض مثل هذه الأفكار التي تنطوي على استعلاء فاضح وادّعاء بتفوّق الحضارة الغربية لا يستند إلى أيّ أساس.
تقع صحيفة الدعوى التي سلمتها حكومة جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية يوم 28 من الشهر الماضي، (ديسمبر/ كانون الأول)، في 84 صفحة، صيغت بحرفيةٍ فائقة، ومن ثم يتوقّع أن يكون لها تأثير كبير، ليس على المسار القانوني لهذه القضية فحسب، وإنما أيضا على إدراك النخب السياسية والفكرية العالمية حقيقة مشروع صهيوني بدأت تنكشف طبيعته العنصرية والإجرامية بوضوح.
تشمل هذه الصحيفة ثلاثة محاور رئيسية: يرصد الأول الجرائم الفعلية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحقّ الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر، والأضرار الهائلة التي لحقت بالشعب الفلسطيني جرّاء حرب إبادة مستمرّة على قطاع غزّة، وأعمال وحشية ترتكب أيضا ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وتعتمد في هذا الرصد على كل المصادر المتاحة، بما في ذلك المصادر الإسرائيلية نفسها. يوثّق الثاني تصريحات مسؤولين إسرائيلين كبار، تؤكّد أن ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني حاليا ليس مجرّد "أضرار جانبية" غير مقصودة تحدُث إبّان الحرب، وإنما يعكس نية مبيتة تستهدف "الاستئصال أو التدمير المادي" للفلسطينيين باعتبارهم كذلك. يتحدّث الثالث عن السياق التاريخي الأوسع للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، للتدليل على أن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في حقّ الفلسطينيين ليست وليدة اليوم، وليست بسبب ما وقع يوم 7 أكتوبر، وإنما هي جرائم ممتدّة في الزمان والمكان، بدليل تعامل إسرائيل الوحشي مع الفلسطينيين الذين تم حبسهم في غزّة "كحيوانات في قفص كبير". وقد اعتمد التوثيق في هذا الجزء على تقارير دولية صادرة عن مؤسّسات محايدة أو عن منظومة الأمم المتحدة. لذا تعدّ "صحيفة الدعوى" المرفوعة من جنوب أفريقيا وثيقة يصعب دحضها، تؤكّد أن إسرائيل ارتكبت ضد الفلسطينيين ليس جرائم حرب فحسب، وإنما جرائم إبادة جماعية أيضا وفقا للتعريف الوارد في اتفاقية 1948التي صدقت عليها إسرائيل عام 1949.
للتدليل على جدّية (وموضوعية) الدعوى القضائية المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وما يمكن أن تُحدثه من تأثير على الأوساط الفكرية والسياسية في العالم، أستأذن القارئ في اقتباس فقرات مطوّلة من مقالة نشرها يوم 8 يناير/ كانون الثاني الحالي، البرفيسور جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، على ما ورد في صحيفة الدعوى المشار إليها آنفا، فهو يصف هذه الصحيفة بأنها "وثيقة مهمّة للغاية، يتحتّم تعميمها على نطاق واسع وقراءتها بعناية من أي شخص مهتم بحرب غزّة المستمرّة"، وبأنها تحتوي على "توصيف رائع وشامل ومصاغ بشكل جيد، وفيه حجج دامغة توثّق بدقة ما تفعله إسرائيل في غزّة". ويصف بعض ما تتضمّنه من تصريحاتٍ للقادة الإسرائيليين ورؤيتهم إلى الفلسطينيين بأنها "تذكّر المرء بأحاديث النازيين الخاصة بالتعامل مع اليهود"، وأن "ما فعله الإسرائيليون في غزة منذ 7 أكتوبر نسخة أكثر تطرّفًا لما كانوا يفعلونه بالفعل قبل 7 أكتوبر".
ويصف الحقائق التي تضمّنتها هذه الصحيفة بأنها "دامغة ويصعب دحضها". يقول ميرشايمر "كنتُ أعتقدُ خلال الشهرين الأولين من الحرب أن إسرائيل تبدو مذنبةً فقط بارتكاب جرائم حربٍ خطيرة، ولكن ليس إبادة جماعية، على الرغم من وجود أدلّة متزايدة على ما سماه بارتوف (نيّة الإبادة الجماعية) لدى القادة الإسرائيليين، غير أنه أصبح واضحًا لي بعد انتهاء الهدنة في 24 - 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 ومعاودة الهجوم الإسرائيلي أن القادة الإسرائيليين يسعون، في الواقع، إلى القضاء على عدد كبير من الفلسطينيين في غزّة".
لذا لا يستبعد ميرشايمر أن يكون لهذه الدعوى تأثيرٌ كبيرٌ على الولايات المتحدة، وعلى الرئيس بايدين شخصيا، وعلى كبار مساعديه، فهو يقول "على الرغم من أن طلب جنوب أفريقيا يركّز على إسرائيل، إلا أن له تداعيات هائلة على الولايات المتحدة، وخصوصا على الرئيس بايدن ومساعديه الرئيسيين"... "وبغض النظر عن الآثار القانونية لسلوك بايدن، فإن اسمه، واسم أميركا، سيرتبطان إلى الأبد بما يحتمل أن يصبح إحدى حالات محاولة الإبادة الجماعية التي سيتم تدريسها".
لم يتخيل ميرشايمر قط، شأن كثيرين في الدول الغربية، أن يوما سيأتي تصبح فيه إسرائيل "الدولة المليئة بالناجين من المحرقة"، متهمة رسميا بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، لكنه لا يتردّد في التعبير صراحة عن اعتقاده بأنه "في المستقبل، سيتم اعتبار إسرائيل مسؤولة بشكل أساسي عن واحدة من أهم قضايا الإبادة الجماعية". صحيحٌ أنه يتوقع أن تمارس إسرائيل والولايات المتحدة ضغوطا مكثفة لمنع إدانتهما معا أو إدانة إسرائيل وحدها بارتكاب هذه الجريمة الشنيعة، ولا يخفي اعتقاده بأن "سلطة المحاكم الدولية لحمل دول، كإسرائيل والولايات المتحدة، على الامتثال للقانون الدولي محدودة للغاية"، لكنه لم يفقد الأمل في أن تتمكّن جنوب أفريقيا ومحكمة العدل الدولية من وقف القتال. لذا يوجّه تحذيرا إلى المثقفين الأميركيين الذين اعتادوا على الصمت على الانتهاكات والأعمال الوحشية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزّة، مؤكّدا أن التاريخ لن يرحمهم.
يكتب ميرشايمر: "الولايات المتحدة ديمقراطية ليبرالية مليئة بالمفكرين ومحرّري الصحف وصانعي السياسات والخبراء والعلماء الذين يعلنون بشكل روتيني التزامهم العميق بحماية حقوق الإنسان في كل أنحاء العالم. أصواتهم تعلو عندما ترتكب الدول جرائم حرب، خصوصا إذا كانت الولايات المتحدة أو أي من حلفائها معنيين. لكن في حالة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، لم يتحدّث معظم منتسبي حقوق الإنسان في التيار الليبرالي سوى القليل عن الأعمال الوحشية التي تقوم بها إسرائيل في غزّة، أو عن خطاب الإبادة الجماعية لقادتها. نأمل أن يفسّروا صمتهم المزعج في مرحلة ما. وبغض النظر، لن يكون التاريخ رحيما معهم، لأنهم لم يقولوا ولو كلمة واحدة بينما كانت دولتهم متواطئة في جريمة مروّعة تم ارتكابها في العلن على مرأى من الجميع".
يُظهر إجراء مقارنة بسيطة بين ما ورد في بيان هابرماس، المليء بالادّعاءات المزيّفة، وما ورد في مقالة ميرشايمر، المستند إلى حقائق يصعب دحضها، بوضوح حجم التحوّل الذي طرأ على إدراك النخب العالمية، خصوصا التي تنتمي إلى الأجيال الشابة، بشأن حقيقة ما يجري في فلسطين، وهو تحوّل يتوقع أن يزداد رسوخا حين تصدر محكمة العدل الدولية أمرا قضائيا لإسرائيل، في إطار الشقّ المستعجل من الدعوى، بوقف حربها الوحشية على الشعب الفلسطيني والسماح بدخول المساعدات الإنسانية من دون قيود، انتظارا لصدور حكم نهائي يدينها بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، لكنه قد يستغرق سنوات.
(العربي الجديد)
اقراء أيضاً
معضلة الوقف الدائم لإطلاق النار في غزّة
سمات الجولة الحالية من الصراع المسلح مع إسرائيل ومآلاتها
وما زالت حرب غزّة مفتوحة على كل الاحتمالات