قال المتحدّث الرسمي باسم الحرس الثوري الإيراني رمضان شريف، الأربعاء الماضي، إن عملية طوفان الأقصى إحدى العمليات الانتقامية التي قام بها محور المقاومة في المنطقة، ردا على إقدام الولايات المتحدة عام 2020 على اغتيال القائد السابق لفيلق القدس، والعقل المدبّر للعمليات الخارجية الإيرانية قاسم سليماني. أدلى الرجل بتصريحه هذا في مؤتمر صحافي عقد عقب اغتيال إسرائيل قيادي آخر في الحرس الثوري، المسؤول عن إمدادات القوات الإيرانية العاملة في سورية رضي موسوي.
ليست واضحةً الدوافع الحقيقية وراء هذا التصريح الذي تداركته طهران ونفته، واضطر صاحبه إلى القول إنه أسيء فهمه، لكنه لا يثير الدهشة فحسب، وإنما القلق أيضا. أما الدهشة فلأنه يتناقض مع تصريحات إيرانية رسمية سابقة، أدلى بها في 10 أكتوبر/ تشرين الأول آية الله علي خامنئي نفسه، المرشد العام للثورة الإيرانية، في وقت كانت فيه إسرائيل تحاول باستماتة إلصاق تهمة الضلوع في عملية طوفان الأقصى بإيران، فقد أكدت أن "طوفان الأقصى" عملية فلسطينية خالصة تخطيطا وتنفيذا، وأن قيادة حركة حماس وحدها هي التي اتخذت القرار بالقيام بها من دون أن يشاركها فيه أي طرف آخر في محور المقاومة، وبالتالي ليس لإيران أي دخل فيه أو علم مسبق به.
أما القلق فمبعثه أن تصريح المتحدث باسم "الحرس الثوري" يقلّل من شأن "حماس" ويظهرها وكأنها، من ناحية، مجرّد أداة لا تملك من أمرها شيئا، وبالتالي تعمل لحساب إيران وتدور في فلكها، فضلا عن أنه تصريحٌ يصبّ، من ناحية أخرى، لصالح إسرائيل. ومعروفٌ أن إسرائيل تستميت لترويج فكرة مفادُها أن إيران رأس الأفعى. وبالتالي هي العدو الرئيسي ليس لإسرائيل وحدها وإنما لكل دول المنطقة، ما يعني أن كل الأطراف الأخرى في "محور المقاومة" مجرد دمى صنعتها طهران لتأتمر بأمرها.
لذا كان من الطبيعي أن يثير ما قاله رمضان شريف ردود فعلٍ غاضبةٍ من حركة حماس التي نفته جملة وتفصيلا، وحرصت على تذكير الجميع بأنها حركة وطنية فلسطينية صرفة، نشأت لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي الأراضي الفلسطينية، ولتمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على حرّيته واستقلاله، وأنها حين قرّرت القيام بعملية طوفان الأقصى فقد جاء قرارها بمثابة رد طبيعي على جرائم الاحتلال اليومية في حق الشعب الفلسطيني، وأيضا للدفاع عن المسجد الأقصى الذي يتعرّض لأخطارٍ وتهديداتٍ جسيمةٍ ويوميةٍ، خصوصا من غلاة المستوطنين.
لا يخالج أحد أي شك في أن إيران هي المركز الرئيسي لمحور المقاومة، ليس لأنها دولة كبيرة في المنطقة فحسب، ولكن أيضا لأن لديها إمكانات عسكرية واقتصادية وعلمية وتكنولوجية تؤهّلها للقيادة، وتمكّنها من تقديم أنواع شتى من المساعدات القيمة لكل أطراف هذا المحور. ليس معنى ذلك أن أطراف هذا المحور مجرّد أدوات ينبغي أن تدور في فلك إيران وتنفذ تعليماتها وأوامرها. فلكل طرفٍ من أطراف هذا المحور قضية وطنية تبرّر وجوده، ويحرص كل الحرص على الدفاع عنها أولا وقبل كل شيء، وبكل ما يملك من وسائل وقدرات، فلفصائل المقاومة الفلسطينية قضية وطنية تدافع عنها، هي فلسطين، التي وهبت نفسها للنضال من أجل تحريرها، حتى ولو كانت لكل من هذه الفصائل طريقته الخاصة في النضال من أجل التحرير.
ولجماعة أنصار الله الحوثية قضية وطنية تدافع عنها، هي اليمن، الذي يسعى إلى تأسيس نظام حكم مستقل يعبّر عن جميع القوى والتيارات، ولا يستبعد أو يهمّش أحدا. ولقوى الحشد الشعبي قضية وطنية، هي العراق، الذي تعرّضت عاصمته لخطر الاحتلال والسيطرة من تنظيم الدولة الإسلامية، ولا تزال قوات وقواعد عسكرية أميركية موجودة في أرضه. ولحزب الله قضية وطنية يدافع عنها، هي لبنان، المهدّد دوما من إسرائيل والقوى المحلية المرتبطة بالاستراتيجية الأميركية في المنطقة، غير أن هذه الأطراف تشترك جميعها في مسألة أساسية، وهي العداء للاستراتيجية الأميركية، التي تصر على فرض إسرائيل دولة مهيمنة في المنطقة.
صحيحٌ أن وجود قضية مشتركة بين أطراف محور المقاومة جميعا يستدعي تنسيقا وتشاورا مستمرّا بينها، لكن ذلك لا يعني بأي حال أن تبنى العلاقة بين المركز والأطراف على مفاهيم التحكّم والسيطرة والتبعية، وإنما ينبغي أن تقوم على تبادل المصالح واقتسام المغانم. ولأن لكل أطراف محور المقاومة مصلحة مؤكّدة في هزيمة المشروع الصهيوأميركي في المنطقة، يفترض أن يدرك الجميع أهمية تجنب التصريحات المثيرة للشكوك والمفجرة للخلافات في ما بينهم، من قبيل ما أدلى به المتحدث باسم "الحرس الثوري"، ثم تسارعت التصريحات الإيرانية التي حاولت نفيه.
إذا حاولنا تقصّي الدوافع التي حدت بالمتحدّث الرسمي الإيراني للإدلاء بما أدلى به، أن الدافع وراء إقدام حركة حماس على عملية طوفان الأقصى كان الانتقام لدم قاسم سليماني، فربما نكتشف أن هذا الدافع يتعلق أساسا برغبة المسؤول الإيراني في إلقاء مزيد من الضوء على الدور الذي لعبه سليماني في دعم صمود المقاومة الفلسطينية المسلحة، لكنه مبرر واه في حقيقة الأمر، وقد يؤدي إلى نتائج عكسية، فحتى مع التسليم بأن الرجل لعب دورا شخصيا محوريا في مد "حماس" وفصائل المقاومة الإسلامية الأخرى بالسلاح، أو بخبرات علمية تمكّنهم من إنتاج بعض أنواع الأسلحة محليا، أو بالوسائل التي تعينهم على إقامة شبكة الأنفاق الهائلة التي مكّنتهم من الصمود في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، إلا أن ذلك كله لا يكفي ولا يصلح مبرّرا للادّعاء بأن عملية طوفان الأقصى، بكل عظمتها وأبعادها، صُمّمت للانتقام من إسرائيل، إذ لدى "حماس" وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية ألف سبب وسبب يدعوها إلى الانتقام من إسرائيل، وبالتالي ليس هناك ما يبرّر اللجوء إلى هذا النوع من التزيّد الذي ينتقص من قيمة "حماس"، ويظهرها بمظهر العميل لإيران.
إذا أضفنا إلى ما تقدّم أن تصريح المتحدّث باسم الحرس الثوري الإيراني سوف يصب حتما لصالح التيارات المعادية لـ"حماس" في المنطقة، والتي تحاول ترويج أن الحركة هي المسؤول الأول عن الدمار الواسع الذي حاق بغزّة وقدّمت لإسرائيل ذريعة للقيام بعملية إبادة جماعية حقيقية لسكان القطاع، لتبين لنا بوضوح حجم الضرر الذي يمكن أن يلحق بـ"حماس" بسبب هذا التصريح. بعبارة أخرى، يمكن القول إنه حين يجرؤ مسؤول إيراني على أن يعلن، في ظل كل التضحيات الهائلة التي يقدّمها الشعب الفلسطيني في غزّة حاليا، أن "حماس" أقدمت على عملية طوفان الأقصى كي تنتقم لقاسم سليماني.
فمن شأن هذا الادعاء أن يزيد من عدد الناقمين عليها، والذين سيسهل عليهم في هذه الحالة اتهامها بالمقامرة بحياة الشعب الفلسطيني ومستقبله، لا لشيء إلا لإرضاء إيران والانصياع لأوامرها، وهو أمر لا يصب في مصلحة أي من أطراف محور المقاومة، بما في ذلك إيران نفسها... صحيحٌ أنه جرت محاولة للتخفيف من وقع هذه التصريح، خصوصا بعد أن نفته "حماس" ودحضته، حيث صدر بيان إيراني يفيد بأن كلام المتحدث باسم الحرس الثوري أسيء فهمه، وأن ما قصده "أن النتائج التي أسفرت عنها عملية (طوفان الأقصى) تعد جزءا من الانتقام لاغتيال الجنرال قاسم سليماني، غير أن الضرر كان قد وقع بالفعل، وتسبب في إثارة شكوك لا داعي لها بشأن حقيقة الموقف الإيراني تجاه حربٍ وحشية مستمرّة تشنها إسرائيل حاليا على قطاع غزّة.
محور المقاومة حقيقة قائمة لا يستطيع أحد أن يقلل من شأنها أو من تأثيرها على مسار الأحداث في المنطقة، وخصوصا أنه تمكّن من تحقيق إنجازات هائلة على مختلف الجبهات، وفي مراحل مختلفة. ولأن إيران هي التي تقود هذا المحور، من الطبيعي أن تقع عليها مسؤولية خاصة للمحافظة على تماسك هذا المحور، والعمل على رصّ صفوفه، خصوصا في الظروف الراهنة التي تسجّل فيها المقاومة الفلسطينية أعظم مشاهد انتصاراتها، ويسجّل فيها الشعب الفلسطيني أسمى آيات صموده واستعداده للتضحية من أجل التحرير وإقامة دولته المستقلة، وأيضا لأن الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزّة قد تتطوّر إلى حرب إقليمية شاملة.
لذا على الجميع أن يتّحد تحت العلم الفلسطيني، لأن إسرائيل كانت ولا تزال مصدر التهديد الرئيسي للأمتين العربية والإسلامية، وبالتالي هي العدو الذي ينبغي أن توجه إليه كل البنادق، ما يفرض على جميع الأطراف أن تتوقّف عن إطلاق أي تصريحاتٍ تؤدّي إلى شق الصفوف أو إلى التلاسن بين مقاومين للمشروع الصهيوني في المنطقة، أصدرت هذه التصريحات بحسن نيّة أو بسوء نيّة، لأن من شأنها إلحاق الضرر بالجميع، ولن يستفيد منها سوى العدو المشترك.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
معضلة الوقف الدائم لإطلاق النار في غزّة
سمات الجولة الحالية من الصراع المسلح مع إسرائيل ومآلاتها
وما زالت حرب غزّة مفتوحة على كل الاحتمالات