مرّت 10 أسابيع كاملة على أهالي قطاع غزّة وهم تحت العدوان الإسرائيلي. يتعرّضون في كل يوم يبقون فيه على قيد الحياة لأهوال جديدة. آلة القتل الإسرائيلية دائماً ما تصطادهم، وهم نيام في مدارس الإيواء أو في الخيم، وهم في الطريق إلى ما بقي من مستشفياتٍ تعمل بالحد الأدنى أو مدمّرة، وهم في الأسواق يبحثون عمّا قد يؤكل أو عن شربة مياه. ومن لا يقتل بالصواريخ ويعتقل، يتعرّض لأبشع أنواع الإهانات والإذلال على أيدي جنود الاحتلال، ويجد من ساسة الاحتلال من يتجرّأ على تبرير هذه الجريمة بالقول: "نحن في الشرق الأوسط والطقس حارّ" في عزّ الشتاء والمطر. والأنكى أن تصريحاً كهذا يمكن أن يمرّ مرور الكرام في حضرة الإعلام الغربي الذي تجنّد، في جزء رئيسي منه، للدفاع عن إسرائيل وتصديق ادعاءاتها وتكرارها من دون أن يطرح أي تساؤلات أو تشكيك حتى في أمور بديهية.
أما نحنُ الذين نتابع المجزرة في بثّ مباشر ممتد أكثر من شهرين، فنميل إلى أسطرة أهالي غزّة، نتحدّث عن صمود أسطوري، عن "انتصار" يقترب، لكن خلف هذا الصمود معاناة لا توصف، أو نحن أعجز عن تخيّلها أو حتى أن نغضّ الطرف عنها.
يقاوم الغزّيون حرب الإبادة التي يتعرّضون لها باللحم الحيّ، ليس لأنهم يحبّون تعذيب أنفسهم أو حتى يريدون ذلك، بل لأنه آخر ما بقي لديهم. لا منازل ولا أموال ولا حتى أفراد من العائلة، فالعائلات إما اختفت وإما تقلّصت... يموتون بالعشرات، ويدفنون في مقابر جماعية عشوائية.
التغريبة التي حضرت في المسلسلات لتجسّد نكبات الماضي تجدّدت ليس فقط بالسيناريو نفسه، بل على نحو أسوأ. دُفِع الغزّيون إلى النزوح مرّة تلو الأخرى منذ بداية العدوان، حتى باتوا على بعد كيلومترات قليلة من الحدود المصرية. يرون الحدود المغلقة، ويدركون أنهم كلما اقتربوا منها ازدادت مخاطر تهجيرهم، ما دام هناك من يرفض فتح معبر رفح فقط لإدخال المساعدات وتعزيز فرص بقائهم في أرضهم.
يحيل هذا المشهد المستمرّ منذ بداية العدوان إلى فداحة الخذلان الذي يتعرّض له أهالي غزّة، وكأن لا حدود للقطاع مع دولة عربية بحجم مصر. لكنه خذلان لا يقتصر على القاهرة وحدها، فالدول العربية مجتمعة، ومعها الإسلامية، التي عقدت في الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) قمّة مشتركة طارئة بشأن غزّة، ثبت أنها لا تريد فعل الكثير، بل الاكتفاء بتصريحاتٍ طنّانة ورنّانة عن معاناة أهالي القطاع وعن ضرورة وقف العدوان، وعن أن التهجير خط أحمر، وبعض الجولات واللقاءات الدبلوماسية. وفي المقابل، لا أفعال على الأرض تترجم القناعة بخطورة المرحلة أو الرغبة في إحداث تبدّل في الأوضاع الراهنة.
يعيش أهالي القطاع، منذ 2007، تحت وطأة الحصار وتكرار العدوان عليهم، اعتادوا الموت أو الموت اعتادهم، قد لا يكون هناك فرقٌ كثير. لم يطلبوا يوماً الكثير، كل ما كانوا يريدونه رفع الحصار للحياة في أرضهم لا خارجها. ويخطئ من يعتقد أن هذا الوضع قد تبدّل اليوم رغم حجم المجزرة الإسرائيلية وهوْل التدمير الذي يتعرّض له القطاع. لكن السؤال الحقيقي والأهم اليوم: هل تريد الدول العربية ومعها الإسلامية، أن يبقى الغزّيون في أرضهم أم أنها استسلمت أو حتى مقتنعة بمخطّطات التهجير الأميركية والإسرائيلية، وترى في كل هذه الحرب والتدمير فرصة متجدّدة لتصفية القضية الفلسطينية عبر تنفيذ أحد أخطر فصولها بتهجير أهالي غزّة.
لا تكفي التصريحات التي يردّدها بعض المسؤولين للإجابة عن هذا السؤال، لأن إسقاط هذه المخطّطات يحتاج تحرّكات على الأرض. لكن الوقائع تفيد بأن لا شيء من هذا القبيل حدث أو سيحدث قريباً، ليترك أهالي غزّة وحدهم في مهمّة إفشال العدوان ومخطّطاته.
(العربي الجديد)
اقراء أيضاً
مهزلة الرصيف العائم
المنظور الأميركي للمحكمة الجنائية الدولية
انتفاضة الجامعات الأميركية