التوصيف الوحيد الذي يمكن أن يعبّر عن هول ما يتعرّض له قطاع غزّة على أيدي آلة القتل الإسرائيلية الهمجية منذ أيام هو الإبادة الجماعية. تبطُش إسرائيل بالبشر، تدكّ المنازل على رؤوس قاطنيها، تدمّر أحياء بأكملها، وتستهدف المسعفين وسياراتهم، تقطع المياه والغذاء والوقود والدواء، وتقصف معبر رفح للإبقاء على إغلاقه، رغم أنه المعبر الوحيد الذي يمكن أن يشكّل حالياً شريان حياة للفلسطينيين في القطاع، فيما لو توفّرت الإرادة السياسية لذلك. تريد إسرائيل عملياً إفناء أهالي غزّة عقاباً لهم على عملية طوفان الأقصى. لا تريد أن تترك لهم بقعة آمنة في القطاع أو مستشفى يعالجون فيه.
ينعى الفلسطينيون على مواقع التواصل الاجتماعي عائلاتٍ بأكملها؛ الأم والأب والزوج والزوجة والأبناء. ويروون مشاهداتٍ عن هول المجازر وعدم قدرتهم على انتشال الجثامين والأشلاء. ورغم ذلك، تنبري عشرات الدول تأييداً لحرب إسرائيل على الفلسطينيين، بينما تغضّ الدول نفسها البصر عن هول مجازر بحق أهالي غزة.
جزء أساسي من المعركة اليوم ليس فقط في الميدان، وإن كان الأهم، نظراً إلى ما يتعرّض له الأهالي، وما سيتعرّضون له كلما طالت الحرب واتخذت سيناريوهاتٍ تصعيديةً إضافية، بل أيضاً يدور حول الصورة.
تحتل وجوه مؤيدة لإسرائيل الصدارة في الإعلام الغربي، تروّج سرديّتها عن الحرب على شاشات التلفزة وفي الصحف والمواقع الإخبارية وكأنها الضحية. يُفتح لهذه الوجوه الهواء ساعاتٍ لتقديم المغالطات والأكاذيب، ومن دون أدنى تدقيق، كمزاعم "قطع رؤوس أطفال" إسرائيليين وقتلهم بالعشرات، وكأنها مسلّمات، ووصل الأمر إلى أن الرئيس الأميركي جو بايدن ردّدها قبل أن يضطر البيت الأبيض إلى التراجع عنها، لأنه لا دليل عليها، عازياً حديثه عنها إلى تقارير أوردتها مواقع إخبارية.
أما الفلسطينيون أو مؤيدوهم الذين يسمح لهم بالظهور على شاشات التلفزة فإنهم يجدون أنفسهم مطالبين بإدانة حركة حماس و"الإرهاب" أولاً، كأنه فرض إجباري قبل السماح لهم بالحديث عن الفلسطينيين. لكن هؤلاء كانوا يدركون أنهم في مهمّة صعبة، لكنها ضرورية ومهمة، لنقل الصوت الفلسطيني، ومنهم، على سبيل المثال، السفير الفلسطيني في بريطانيا، حسام زُملط، والذي كان قادراً، عبر ظهوره المتكرّر، على أكثر من وسيلة إعلامية، على التصويب على "طلب الإدانة" كفرض، مركّزاً حديثه على الجرائم الإسرائيلية ومسؤولية الاحتلال وحده عن مآلات الوضع، سواء في غزّة المحاصرة على مدى 16 عاماً، وتتعرّض لشتى أنواع المظالم، أو عبر إغلاق مسارات السلام وإطلاق العنان لغلاة المتطرّفين للحكم والبطش.
لا يساوي الإعلام الغربي، بشقّه المؤيد إسرائيل، بين المُحتَل والخاضع للاحتلال حتى، بل "يحقّ" للاحتلال فعل ما يشاء من مجازر بالطائرات والمدافع والسفن الحربية، بينما لا يملك أصحاب الأرض في غزّة، وهم أكثر من مليوني إنسان، حتى الحقّ في الحياة، شأنهم في ذلك شأن باقي الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس والداخل الذين يريد منهم العالم أن يتعرّضوا للقتل والحرق، وتسرق أراضيهم ومنازلهم، ويهجروا ويواجهوا الاعتقال، وينكّل بهم على الحواجز وفي السجون، حيث يُحرم الأسرى، منذ أيام، من المياه والكهرباء بصمتٍ تام، وتسليم بمشيئة إسرائيل. أما عندما يدافعون عن أنفسهم، فإنهم ملامون، ويستحقّون السحق، لأنهم ليسوا الأولوية.
يبدو هذا النهج أقرب إلى ما اعتاد وزير الأمن القومي المتطرّف، إيتمار بن غفير، ترديده في الآونة الأخيرة من أن حياة المستوطنين/ الإسرائيليين أهم من حركة/ حياة الفلسطينيين. وإذا كان حديثه تركّز على الضفة الغربية، فإن هذه العقلية تسري على كل نقطة من الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تواجه نظاماً استعمارياً قائماً على جرائم لا حصر لها.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
مهزلة الرصيف العائم
المنظور الأميركي للمحكمة الجنائية الدولية
انتفاضة الجامعات الأميركية