لا صوت يعلو اليوم على أصوات حرب التصفيات الدائرة في الخرطوم، وهي أكبر من أن تكون حربا شخصية بين الجنرالين عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو «حميدتي»، مع تكاثر مآسيها التي تتلاحق كل يوم وكل ساعة، وتساقط مئات وربما آلاف القتلى، وعشرات أضعافهم من الجرحى والمصابين المعلومين والمجهولين، وتفشي أعمال السلب والنهب، واقتحام كل السجون وفرار كل المجرمين، والانقطاع شبه التام لخدمات المياه والكهرباء والمخابز والمستشفيات وموارد الدقيق والوقود، وتضاعف تكلفة الخروج من الجحيم إلى عشرة أمثالها، مع الهروب الجماعي للأجانب من رعايا ودبلوماسيين.
وترك البلد الذي تتدحرج كوابيسه إلى ما هو أفظع، وربما إلى حروب أهلية جديدة، ذاق السودان ويلاتها عبر 77 سنة بعد استقلاله الرسمي في يناير 1956، وضاعت فيها أرواح الملايين، من حرب الجنوب، وليس انتهاء بحرب دارفور، التي استمرت لنحو عشرين سنة، وهدأت مدافعها قليلا قبل سنوات، وإن ظلت الجمرات تحت الرماد وفوقه، وربما تشتعل مجددا، وتكمل دائرة النار، التي فصلت جنوب السودان عام 2011، ليغرق هو الآخر في بحر مجاعات وحروب قبلية، تمد شراراتها إلى جنوب كردفان والنيل الأزرق، وإلى ولايات الشرق، حيث تتناسل حركات تمرد جديدة، تضاف إلى حركة تحرير السودان (عبد الواحد نور) والجبهة الشعبية (عبد العزيز الحلو)، وغيرها من جماعات مسلحة، لم توقع على اتفاق جوبا للسلام (أكتوبر 2020)، ولا ترضى بنصوصه، ولا بفكرة الاندماج في الجيش السوداني، الذي يحظى إلى اليوم برضا وبتوافق نسبي من حركات التمرد القديمة، التي قد تعود لحروب السلاح، إن لم ينجح الجيش في تصفية تمرد «حميدتي» في الحرب الجارية.
والقصة ـ للأسف ـ أكبر وأخطر من نداءات المطالبة بوقف إطلاق النار، ومن وساطات التدخل بالتهدئة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع «المتمرد»، أو تنظيم لقاءات تبويس لحى بين الجنرالين البرهان وحميدتي، أو استعادة سيرة حوارات الاتفاقات الإطارية، والانتقال لسلطة مدنية وغيرها، وكلها شعارات على ما يبدو من نبلها الأخلاقي، فإنها لا تقدم رجلا إلا لتؤخر غيرها، ولا تخاطب أصول معضلة السودان وكوابيسه، التي تنقلت به على نحو دوري من حكم مدني إلى حكم عسكري، مع الغلبة الظاهرة لفترات الحكم العسكري طوال عمر السودان، ووقوف أحزاب وجماعات (مدنية) وراء تحريض العسكريين على الانقلابات.
كما جرى من «حزب الأمة» في انقلاب إبراهيم عبود (1958)، وكما جرى من جماعات اليسار في انقلاب جعفر النميري (1969)، وكما جرى من حزب حسن الترابي «الإخواني» في انقلاب عمر البشير (1989)، الذي استمر وحده في الحكم لمدة ثلاثين سنة، بدا أنها انتهت مع ثورة شعبية اشتعلت في ديسمبر 2018، وخلعت البشير في أبريل 2019، وتركت السودان نهبا لفوضى متصلة، ولانفجارات دموية متقطعة، ولفترة انتقالية متطاولة، لم يظهر فيها حاكم فعلي للسودان، اللهم إلا البعثة الأممية (يونيتامس)، التي طلبها عبد الله حمدوك رئيس الوزراء الأول باتفاق شراكة المدنيين والعسكريين في رسالة للأمم المتحدة أوائل 2020، وترأسها ولا يزال الألماني فولكر بيرتس، وتوسعت في مهامها إلى حد الإشراف على مجريات المرحلة الانتقالية.
وفي صورة أقرب لوصاية مكتب الحاكم الأمريكي بول بريمر في العراق بعد احتلاله، ومع حكم بيرتس، الذي عمل سابقا في مكتب بول بريمر نفسه، تساندت أدوار لصيقة للأمريكيين والبريطانيين والنرويجيين وغيرهم، واجتذبت فئات أوسع من أطراف تحالف الحرية والتغيير، وتوسعت دوائر منح جنسيات أجنبية للمتعاونين، بل صرف رواتب ثابتة لكثيرين تحت عناوين مموهة، وهو ما كان سببا ظاهرا في خفوت أو غياب الاعتراض «المدني» على الاتجاه لتطبيع العلاقات مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، والعمل الدؤوب على نزع نسب السودان إلى العروبة، والتركيز على معنى هلامي لأفرقة السودان، ثم كانت المصيبة الأكبر في توقف إجراءات الانتقال عمليا، وإطاحة الشراكة المدنية العسكرية.
وتزايد الانشقاقات في جبهة أحزاب الحرية والتغيير، وانقسامها عمليا بين كتلة «المجلس المركزي» الأقرب إلى مكتب بيرتس، و«الكتلة الديمقراطية» الأقرب إلى الجيش، وكتلة الحزب الشيوعي ولجان المقاومة المعادية ظاهريا للكل، إضافة لاستدعاء حضور فئات «إسلامية» و«إخوانية»، ادعت سبقا لها في مقاومة نظام البشير المخلوع، وهكذا تمزقت أطراف الأحزاب المدنية الساعية للديمقراطية، ورفض أغلبها الانتقال السريع لإجراء انتخابات عامة، وتشكيل حكومة مدنية منتخبة يخضع لها الجيش، على نحو ما دعا إليه البرهان القائد العام لقوات الشعب السودانية المسلحة، الذي طلب غير مرة، أن تتوافق الأطراف المدنية على تشكيل حكومة جامعة، تعد لانتخابات رئاسية وبرلمانية، وهو ما لم يلق هوى لدى أطراف تدرك هزالها الانتخابي، وتحتمي بسطوة التدخل الأجنبي المتفشي، وسعت لاستثمار طموح «حميدتي»، وعرقلة مطلب دمج قوات الدعم السريع في صفوف الجيش، وإنهاء وضعها الشاذ الموروث عن فترة حكم البشير.
وهكذا رأينا عودة مراهنة أطراف «مدنية» على قوة عسكرية لطلب الحكم معها، وبغير لجوء إلى تصويت الشعب، وهو ما كان سببا مباشرا في انفجار الحرب الراهنة بالخرطوم، وتدبير «حميدتي» لانقلاب على الجيش، كان مخططا له بالتوافق مع أطراف إقليمية ودولية معروفة، راهنت على «قوة الدعم السريع» لإنهاك وتفتيت الجيش، وهو المؤسسة السودانية الوحيدة، المعبرة رمزيا عن وحدة ما تبقى من السودان، وأيا ما كانت سوءات الجيش، وكراهيته من قبل أطراف سودانية، دخلت معه في حروب أهلية ونوبات تمرد، واتهامها لضباط الجيش بالتعبير حصرا عن قبائل شمال السودان ووسطه، وتكريسهم للطابع العروبي على حساب المعاني الافريقية المهمشة.
وأيا ما كانت هذه الاتهامات وسواها، فلم يحدث من قبل أبدا، أن أدار الجيش حربا في قلب العاصمة الخرطوم وجوارها، وأغلب المظالم والفظائع المنسوبة للجيش، جاءت من جهات رديفة استعان بها الجيش في الحروب الأهلية على الأطراف، خصوصا في فترة حكم البشير، الذي جعل لحربه الخاسرة مع الجنوب طابعا دينيا متعسفا، وأنشأ قوة «حميدتي» من عصابات «الجنجويد» سيئة السمعة في دارفور، وجعل لها وضعا رسميا بقانون أصدره برلمانه عام 2017، وبعد أن هدأت تمردات دارفور، ثم خلع البشير نفسه، تحولت «قوة الدعم السريع» بقيادة «حميدتي» إلى قنبلة موقوتة انتقلت للخرطوم.
زاد «حميدتي» بطموحه السياسي قوة تفجيرها، ووجد في حيرة ودوامات البحث عن سلطة في السودان اليوم، أن الفرصة جاءته على طبق من ذهب، وأن الساعة حانت للتخلص من رئيسه البرهان، وأن تدمير الجيش يفتح أمامه طريق الرئاسة، فلن يتكلف الأمر سوى بضعة شعارات مجوفة، من نوع السعي للديمقراطية والانحياز لما يسميه «خيار الشعب»، ومغازلة «قوى مدنية» خاضعة للتدخلات الأجنبية، وهو يدرك ضعفها، وربما احتياجها إلى واجهة إنقاذ من ماركة «حميدتي»، الذي راح يدير انقلابه على طريقة «الصدمة والرعب» الأمريكية، وينطلق من معسكرات قواته التي كانت قائمة قبلها بالفعل في الخرطوم، وبهدف السيطرة المفاجئة على المراكز السيادية الكبرى من نوع «القصر الرئاسي» و«مطار الخرطوم» و«القيادة العامة للقوات المسلحة».
لكن الأمور اللواحق جرت بغير ما اشتهى، وجاءته الطامة الكبرى بإشهاره العداء لمصر عملا بأوامر رعاته، وهو ما دفع أقوى جيران وأشقاء السودان لعداء ظاهر ومستتر مع قواته، يدفعها غالبا لمصائر الهزيمة، ويكشف حقيقتها كعصابات قتل وسرقة وإجرام، لا تملك عقيدة وطنية تعي مصالح السودان، بل مجرد ارتزاق وانسياق بالمال وراء قيادة عائلية قبلية، لا يصح أن تكون بديلا مقبولا لجيش السودان القومي المحترف، الذي من دونه ينهار ما تبقى من السودان كدولة.
فقد ولد السودان المعاصر بعاهة ملازمة، هي ضعف جهاز الدولة في بلد شاسع المساحة، ومتنوع الأعراق والقبائل والحساسيات والثروات، ومترامي الأطراف والبيئات، إضافة لجوار خطر مفتوح مع سبع دول، ولكن بتواضع ملحوظ في جهاز الدولة، سواء في الخدمة العسكرية أو الخدمة المدنية، وهو ما كان سببا في دورات حكم مضطربة على نحو متصل، وفي تعثر فترات الحكم العسكري والمدني معا، ووجود جيش واحد موحد للبلد، وعلى أساس قومي سوداني جامع، وبمبدأ التجنيد الوطني الإلزامي الجامع، مع إذابة مظالم الفئات المهمشة، هو مدخل السودان الأول لبناء جهاز دولة أقوى، ولاستقرار حياة السياسة فيه، فالديمقراطية لا تبنى في فراغ دولة، وتحطيم الجيش لا قدر الله، يكتب شهادة وفاة السودان الذي نعرفه.
*نقلاً عن القدس العربي
اقراء أيضاً
يوم نكبة «إسرائيل»
«إسرائيل» المارقة وأمريكا المنبوذة
مأزق أمريكا الإيراني