خلال اطلاع دوري لي على صفحات الفيس بوك العربية مؤخرا، لفتت نظري سلسلة لمستشار عقاري عربي من تركيا، يطرح مقاطع فيديو عفوية، تساعد أصدقاءه في الفيس بوك، الباحثين عن خيار الهجرة المتزايدين في الوطن العربي، لفهم طريقة الحياة في تركيا وفرص العمل فيها.
ومع أنه يعرض مقاطعه للجميع، لكن غالبية جمهوره ممن لا يملك إلا القليل من المال، ولذلك فهو يعرض الرؤية للطبقة الكادحة، أكثر من غيرها، وإن أكد على دور المال في تحسين ظروف الحياة في تركيا كأي بيئة غربة.
وقد أكد المستشار أن هذه الأسئلة، تتزايد بسبب أحداث ما بعد الربيع العربي، وما بعد الانكماش الاقتصادي في الخليج العربي، وهي ظاهرة مشهودة بالفعل للرغبة في الهجرة إلى تركيا، فضلا عن أوروبا التي ازداد الطلب عليها، ولكن تشهد تضييقا واسعا للهجرات، بسبب تزايد انشطارات الشرق وقضايا أخرى في العالم.
وبسبب ارتفاع النزعة اليمينية الدينية والعنصرية في الغرب، التي بعض مسبباتها أصلية، وبعضها جراء صور الأعمال الإرهابية، التي صنعتها جماعات دينية وُلدت في العالم الإسلامي، بغض النظر عن تقييم المسؤولية وتوزيعها، بين هذه الجماعات وخطابها، وبين استبداد النظام الرسمي العربي الذي عززها، والعهود الدولية الغربية، المصرة على بقاء الشرق تحت عهدة المصالح الغربية.
وهناك سبب آخر يُضعف موقف التوازن المعتدل الذي أبقته بعض دول أو حكومات أو أحزاب وجمعيات مدنية غربية، بسبب عدم ضبط الخطاب الإسلامي خلال الصراع السياسي والأحداث، وهو ما يُستغل للتطفيف ضد المسلمين في نقل هذه الصورة، مع القصور الذاتي في تجربة المهاجرين المسلمين، لضعف إمكانياتهم، وتحولهم المتأخر لحسم قضيتهم كمواطنين وليس لاجئين، وإن حققوا تقدما جيدا مؤخرا رغم كل الظروف المحيطة بهم.
ويجدر هنا التأكيد على حساسية ظروف المسلمين المهاجرين ومصالحهم في الغرب، من بعض حملات الاشتباك الإعلامي والسياسي التي لا تحقق معادلة تفوق للشرق في نهايتها، وإنما مواجهة إعلامية شرسة، يتم توظيفها ضد المهاجرين، وضد مصالح الدولة المسلمة ذاتها، في ظل فقدان كامل للتوازن الرادع، أو القدرة على إخضاع الغرب لموقف الصراع السياسي، وهذا لا يعني عدم الرد، ولكن ضبط لغته حتى لا يتسبب بمفاسد أكبر للشعوب المسلمة، ومواطني الدول الغربية منها.
وكمفارقة عجيبة في أحاديث المستشار عن مصالح الحياة في تركيا، لمست في تدويناته الأخرى نزعة حادة ضد الموقف السلمي في اجتهادات بعض الجماعات الإسلامية، إضافة للحديث عن تاريخ المواجهات للدولة العثمانية مع الغرب وحروبها الشرسة التي عانت خلالها تركيا من تحالف عنصري صليبي مؤكد، استثمر ضعفها، وتركها تتدرج في أزماتها، لكن أكبر عنصر ساعده -وهي قضية مسلمة تاريخيا- هو الاستبداد وعدم سماع دعوات الإصلاح، وإشكاليات العلاقات مع القوميات الأخرى.
وكنت أتساءل كيف نجمع كل توجهات المستشار العقاري، هل كان يعطي نصائح الاستقرار المعيشي والحياتي في تركيا لأصدقائه، من خلال استقرار مرحلي، ثم يشاركون تركيا على سبيل المثال حربا جديدة ستدخلها مع أوروبا، وسواء كان هذا التفكير موجودا كعزم، أو مجرد مشاعر عاطفية عند بعض الشباب العربي، وهو مرصود بوضوح، فإن هذه النزعة العاطفية السطحية خطيرة في تفكير الشباب وغيرها.
وهنا نطرح سؤالا مهما، ماذا لو عبر التصويت للدستور بفارق يسير أو لم يعبر، ما هو موقف الدولة التركية وحزب العدالة التي يقودها؟
إن من يراقب واقع تركيا السياسي، يدرك أن التراجعات الرئيسية في سوريا والعراق، وأمام روسيا، هي منهجية سعت بها أنقرة لتخفيف الضغوط عليها، وتصحيح بعض الأخطاء التي وقعت فيها، كما أن دورات التجديد في حزب العدالة خاضعة لمعايير إقليمية ودولية صعبة، وأن تسويات الملف الداخلي، وضمان التحييد الدولي، قد تستدعي شروطا صعبة لمستقبل تركيا، وهي لا تُحمّل أكثر مما تحتمل، ولا تُقدّس مواقفها، فهي تجربة بشرية، لها مواقف مميزة وتصحيحية في تاريخ تركيا الديمقراطي، وأطلقت جسورا حيوية مع الشرق المسلم وهويتها الإسلامية، ولكن لتجربة العدالة أخطاء أيضا.
فهناك سؤال قلق يتواجد في الضمير التركي، في الحالة العلمانية والإسلامية، يتعلق بإيمان الجميع باستهداف قادم لتركيا، مع خلاف عن دوافع هذا الاستهداف، وتبادل تحميل المسؤولية، وهي قضية لها ارتباط بالتواجد العربي والإسلامي الشعبي على أراضي تركيا التي يُسجل لها فتح أبوابها للاجئين والمضطهدين، لكن لا نعرف أي ظروف ستُحتم عليها مستقبلا، تغيير سياستها لحماية الدولة والسيادة الوطنية، وهي قدرات حققها بالفعل العهد الأول من حزب العدالة، وخاصة عبر الشخصية الإستراتيجية أحمد داود أوغلو.
إن العنوان الكبير الذي يحتاجه الخطاب العربي الإسلامي اليوم، وخاصة لدى النخبة التي تملك قرارات تعديل في مستقبل معاركها الوطنية، ومنها الحركات الإسلامية، هو التفكير الجاد والمركز عن حاجة كل دولة وشعب عربي، في ظل هذا الانهيار الواسع للمشرق العربي، لمشروع هدنة يضمن بقاء الدولة وتماسك المجتمع، ورفع الظلم العنيف عن المضطهدين وإطلاق المساجين، حتى تهدأ رياح الحرب وتسكت طبول العنف قدر الاستطاعة، قبل أن تصل لمستوى سوريا، التي أصبح القرار الدولي فيها اليوم في أوج تمكنه، وكأننا في نهاية حرب عالمية.
إن هذا المشهد القائم بين أعيينا، يعتبر من أبرز سماته بالنسبة لمنطقتنا تسابق واضح بين الدول العربية لاسترضاء الغرب، وخاصة أميركا لمصالح الحكم القُطرية، يقابله تعزيز فعلي لشراكة غربية مع إيران والروس، بل والاعتراف والتعامل السياسي العربي مع منتجاتها، كما يجري اليوم في العراق.
وهو ما يحتم طرح أسئلة تتعلق بالمصير المنتظر، وماهي عبادة "الدفع" بالأسباب المتاحة، للحركات الإسلامية في المجتمع العربي، وهل حقق استهلاك هذه الحركات في تلك الحملات الإعلامية، من تغييب العقل التي تبادلت الملاعنة مع الطائفية الإيرانية، والتوظيفات الضخمة تحتها، أي مستوى من الردع، أم كانت مجرد حقن مشاعر، صرفها عن البناء الإستراتيجي، والأخطر من ذلك تقاطع حالة الغرق الطائفي السياسي والأمني، مع صناعة التوحش في التنظيمات الإرهابية، ثم قلب الطاولة على المجتمع العربي، بعد نهاية موسم داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، وفرض الجزية لاستثناء هذه الدولة أو تلك من تصنيف الإرهاب.
ثم هل هناك لدى حركات التغيير العربي -في ظل الهجمة الفكرية والسياسية والعسكرية التي تهدم بلدان المشرق، وتُسقط جغرافيتها السياسية- قدرات ومشاريع محددة لجمع الطيف الوطني واستعادة حذرة لا تكرر الأخطاء، وتضمن تعديل الموازين لربيع آخر، أم أن هذه الدول والمجتمعات، تعيش حالة فقدان توازن كلي؛ فذات المعارضات أصبحت لديها قضايا صراع وتفكك داخلي لم تستطع حله.
وبالتالي هل أصبح مشروع الهدنة طويلة المدى، لوقف العنف من النظام الرسمي، أو وقف خارطة السقوط في الحروب، وصناعة خطاب التصحيح المجتمعي، والوعي الوطني، وتصحيح مفاهيم الفكر الإسلامي إلى مقاصد الشريعة، لا صراعات المذهبية السياسية، هو الحل المؤقت حتى تنضج الأرضية وتنقذ البلدان.
إن الظاهرة الجديدة هي إشعال الحروب الفكرية التي تتخلل المجتمعات العربية، لإسقاط وحدتها وطمأنينتها الاجتماعية وقطع جسور الأسرة وما تبقى من روابط قيمية، مستثمرة حالة الاستبداد وصورة دعاة الغلو أو التشدد، لتعميم ظالم على كل خطاب التربية والأخلاق والقيم الإسلامية.
وتلك الحروب الفكرية هي رديف مباشر لأعمال الحروب والصراعات العنيفة، والعمل لوقف هذا الصراع، أو تأطيره سياسيا، لا يعني التخلي عن فكر العدالة والحرية والدولة المدنية الدستورية، وقيم الهوية الإسلامية، وإنما إنقاذ البيت من الحريق.. فماذا يتبقى للشعب ومشروع العدالة الاجتماعية، حين تحترق كل الخيمة الوطنية؟.
*الجزيرة نت
اقراء أيضاً
اليمن والخلاف الخليجي الجديد
عودة الرئيس علي عبد الله صالح
صورة السعودية الجديدة في المسرح الدولي