لن يستطيع كيان الاحتلال أن يهزم شعبا فيه أمثال إبراهيم النابلسي، وهو شاب فلسطيني عمره 19 ربيعا، كان قائدا لتنظيم «كتائب شهداء الأقصى» الجناح المسلح لحركة «فتح» في مدينة نابلس، حاصرته قبل أيام جحافل من القوات الإسرائيلية الخاصة بتدريبها العالي، واستخدمت ضده صواريخ خارقة للدروع محمولة على الأكتاف، وعرف إبراهيم أنها معركته الأخيرة، وأنه ذاهب للشهادة حتما مع رفيقيه إسلام صبيح وحسين جمال طه، وما كاد يفرغ من إطلاق رصاصته الأخيرة، حتى كان ينقل بنفسه خبر استشهاده الوشيك لأهله عبر رسالة «موبايل».
ثم بدت أمه الأربعينية في جنازته مثالا باهرا لأم الألم الفلسطيني، فخورة بابنها على الرغم من جبال الأحزان، تزغرد وتزف ابنها لرحاب الخالق العظيم، وتقول إنه كان يحلم من طفولته بيوم استشهاده وذهابه لحبيبه، وتتنقل بعينيها الواسعتين بين وجوه الشباب المحتشد حولها، وتقول لهم «إذا قتلوا إبراهيم، فلدي مئة إبراهيم، وأنتم جميعا أولادي مثل إبراهيم»، وتحبس الجليلة دموعها، وهي تحمل نعش ابنها الشاب إلى مثواه الأخير.
ولم تكد النار تهدأ على جبهة غزة بعد العدوان الأخير، حتى انتقلت قوات الاحتلال بحروبها الدموية إلى القدس ومدن الضفة الغربية، وارتقى آخرون لمقام الشهادة مع إبراهيم ورفيقيه، ووقع آخرون في أسر العدو، من نابلس إلى الخليل وجنين وبيت لحم، ومن شباب حركة «فتح» و «حركة الجهاد الإسلامي»، فلم تنه الحركة الأخيرة معركتها عند حدود غزة، ولم يفت في عضد مناضليها، ما جرى في قصف غزة واستشهاد عدد من قادتها الكبار في الجناح العسكرى «سرايا القدس»، كان في مقدمهم تيسير الجعبري قائد الشمال وخالد منصور قائد الجنوب، فكل قائد يموت يحل بعده مئة.
وقد خاضت منظمة «الجهاد الإسلامي» وحدها حرب الثلاثة أيام الأخيرة، وأطلقت وحدها ما يقرب من ألف صاروخ مصنع محليا على مستوطنات العدو، وصولا إلى القدس وشمال تل أبيب، وأحدثت هلعا ورعبا نفسيا داهما، دفع مليون مستوطن إسرائيلي إلى ملاجئ الخوف، ومن دون أن يحقق العدو المزهو بما يملك من سلاح، هدفه في تصفية خطر الجهاد والمقاومة، فقد نبتت ورود حركة «الجهاد» من دم الشهداء، وكلما زاد عدد الشهداء، تضاعف عدد المقاتلين والأنصار، وكان شعار مؤسسها فتحي الشقاقي، الأثير في تمجيد «الدم الذي يهزم السيف»، ولم تنته سيرة الحركة باستشهاد الشقاقي نفسه على يد الموساد الإسرائيلي في مالطا، ولا باستشهاد العشرات والمئات من القادة والمقاومين، بل يزيد نفوذها وعديدها.
ولدت نواتها الأولى الصغيرة في كلية الطب في جامعة الزقازيق المصرية وكان الشقاقي ـ طالب الطب ـ قد اقترب من جماعة «الإخوان»، وتركها بعد فترة سابقة من الانتساب للأفكار القومية العربية، لكن الحدث الذي حول سيرته، كان ثورة الخميني في إيران، وإسقاط حكم الشاه العميل لأمريكا وإسرائيل، بطوفان جماهيري عارم وبشهداء لا يحصون، وطبع التأثر بالمثال الإيراني حياة حركة الجهاد بعد استشهاد مؤسسها، ومن بداية نشوء الحركة أوائل ثمانينيات القرن العشرين إلى اليوم، لم يشغلها شاغل غير حلم تحرير فلسطين كاملة من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، فلم تتورط أبدا في تفاعلات وتناقضات الحركة الداخلية، بأي قطر عربي مجاور لفلسطين أو بعيد عنها.
وظلت حركة فلسطينية لحما ودما وعملا وغاية وعقيدة، وإن ظلت تدعو العالم الإسلامي كله إلى نصرة قضيته المركزية في فلسطين، ولم تتلق دعما مؤثرا بالمال والسلاح إلا من طهران، ومن سوريا أحيانا، لكنها لم تدخل أبدا في صدام مع أي نظام عربي، أيا ما كانت وجهته وطبيعة علاقته مع شعبه، ولم تدخل في صدام مع السلطة الفلسطينية بعد توقيع «اتفاق أوسلو» سيئ الصيت، الذي عارضته باستقامة فريدة، تكاد تكون وحيدة في بابها، فقد رفضت «أوسلو» وكل ما ترتب عليه، ولم تشارك أبدا في أي انتخابات برلمانية عامة اقتضتها ممارسات سلطة ما بعد «أوسلو»، ولا زاحمت على كرسي أو منفعة من سلطة، وهو ما أتاح لها سلاسة حضور فلسطيني وطني جامع، عابر للأيديولوجيات والتحزبات الضيقة، لا يقيد حركته بنوازع تعصب إلى اليسار أو إلى اليمين، ويقيم علاقات مميزة مع الكوادر الراديكالية في حركة «فتح» التي تعاديها «حماس».
وأثمر النهج طويل النفس، الذي لا يعادي فلسطينيا، ولا يسعى لكسب مساوم، واستطاعت «حركة الجهاد» محدودة الموارد، قياسا إلى حركة «حماس»، أن تكون جسر عبور إلى ساحات العمل الفلسطيني كلها، وهو ما يفسر شعارها «وحدة الساحات» في الحرب القصيرة الأخيرة، فقد كسبت «حركة الجهاد» أرضا واسعة في غزة المحاصرة، ومدت وجودها المحسوس في دأب إلى الضفة الغربية، وإلى الداخل الفلسطيني المحتل منذ عام 1948، وصارت المورد الأول لكتائب «جنين» وغيرها، وقد صارت «جنين» بؤرة متقدمة لعمل ثوري فلسطيني في القدس والضفة الغربية، وأهلتها مزايا تاريخها الكفاحي المضيء، وموقعها الجغرافي المتداخل مع سهول وقرى ومدن الداخل الفلسطيني، وسيولة اتصالاتها التجارية النشيطة، ومنجمها البشري المحتقن المتحفز في مخيمها الشهير.
أن تكون عنوانا بارزا لمرحلة جديدة عفوية في تطور المقاومة الفلسطينية، مرحلة ما بعد حرب «سيف القدس» في مايو/أيار 2021، التي تمتاز بتوحيد الساحات وتوحيد الكفاح الشعبي الفلسطيني، ولعب شباب «الجهاد» مع شباب «فتح»، الدور الأكثر ظهورا وجاذبية، من عملية «نفق الأسرى» إلى العمليات الفدائية الاقتحامية الجريئة في مدن الكيان المحتل، وهو ما يفسر غضب جيش الاحتلال من حركة «الجهاد» بالذات، وسعيه لإحداث شرخ بينها وبين «حماس» في غزة، والادعاء بأنها مدعومة من إيران، وكأن «حماس» ليست كذلك، فلا توجد دولة عربية مستعدة لدعم أي حركة مقاومة فلسطينية، بل توجد للأسف حكومات عربية تمد إسرائيل بالمال والاستثمارات.
وباعتبار حروب «إسرائيل» لمصلحتها، وكأنهم معا إخوة في الرضاعة، وهو وضع مزر مهين، لا يصح معه لوم لأي منظمة مقاومة فلسطينية حقيقية، وحركة «الجهاد» كذلك في ما نظن، فلم ترفع يوما سلاحا في وجه أي فلسطيني أو عربي، وعلى الذين يريدون محاربة إيران، أن يذهبوا إليها إن استطاعوا، لا أن يواصلوا الصلاة قياما وقعودا وركوعا خلف كيان الاحتلال الإسرائيلي، ولا أن يهاجموا حركة «الجهاد» لسلاحها الإيراني، الذي لا يجري استخدامه حصرا إلا ضد كيان الاحتلال، الذي فشل وسيفشل يقينا في كل حرب يخوضها ضد المقاومة الفلسطينية.
لا لأن المقاومة تملك سلاحا أكثر أو أحدث، بل لأنها تملك يقينا لا يهتز بنصر الله المقبل حتما، مهما طالت العقود، ومهما بلغ إجرام وتجبر كيان الاحتلال، الذي يدمر كل شيء في غزة والضفة والقدس، ويقتل النساء والأطفال قبل المقاومين، ويطلق أسماء كودية مزيفة على عملياته العسكرية، من نوع «الفجر الصادق» في الحملة على غزة، أو «كسر الأمواج» في الضفة، فالفجر الجديد يصنعه شباب فلسطين المقاوم، والأمواج الشعبية تثور وتعلو مع قوافل وداع الشهداء، والحركة الكفاحية الفلسطينية تلقى دعما واحتضانا شعبيا متزايدا، بفضل الأثر العكسى لهمجية الاحتلال.
وعلى الرغم من كل صنوف الخذلان التي نعرفها، من اعتلالات الموقف الرسمي الفلسطيني، إلى خطايا الموقف الرسمي العربي، إلى تواطؤ ما يسمونه «المجتمع الدولي»، وهو تعبير دبلوماسي لقيط، يستخدم عادة للإشارة إلى واشنطن والدول الغربية، وكلها مندمجة استراتيجيا مع كيان العدو، ولا تفهم سوى لغة القوة وحسابات الدم.
فأمريكا وبريطانيا تبرران لإسرائيل عدوانها وقتلها اليومي للفلسطينيين، وتصفه بحق الدفاع عن النفس، وكذا تفعل أغلبية الدول الأوروبية، التي تحتشد في حرب أوكرانيا الخاسرة، وتتعاطف مع «كييف» بوصفها «إسرائيل الكبيرة» كما قال فولوديمير زيلينسكي، وتدعم إسرائيل الصغيرة على أرضنا وفوق جثثنا، وتذر في عيوننا غبارا وكلاما فارغا من نوع الدعوة لما يسمى «حل الدولتين» وطلب الهدوء والأمن، وإلى آخر الهواء وقبض الريح الذي نلوكه صباحا ومساء.
فلا فرصة لتفاوض ولا لسلام موهوم في المدى المنظور، وكلما توقف عدوان إسرائيلي، بدأ آخر، فكيان الاحتلال يدرك بالغريزة، أن التفوق السكاني الفلسطيني المطرد، ووعي الفلسطينيين المستفيق بأولوية المقاومة ودورها، ونشوء أجيال فلسطينية شابة لا تخشى الموت، ووحدة الكفاح الفلسطيني على اتساع فلسطين التاريخية بكاملها، كلها متغيرات تؤذن بقصف عمر كيان الاحتلال، حتى لو استمر سجال الدم على مدى عقود مقبلة، تعود فيها النجوم إلى مداراتها الأصلية، وتستنزف فيها قوة الاحتلال وطاقته، وبأيادي المقاومة البطلة وحدها وحصرا.
اقراء أيضاً
يوم نكبة «إسرائيل»
«إسرائيل» المارقة وأمريكا المنبوذة
مأزق أمريكا الإيراني