هل يخرج صدام إيران و «إسرائيل» من حروب الظل إلى النار العلنية الموقدة؟ وهل تكون المواجهة مباشرة وشاملة؟ أم تكون حربا بالوكالة؟ تكتفي فيها طهران بدعم الجماعات الحليفة المسلحة إيرانيا، من «حزب الله» في لبنان إلى «حركة حماس» في غزة، وهو ما بدا ظاهرا في حروب سبقت مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، من حرب يوليو 2006، التي زادت أيامها الساخنة على الشهر، إلى حرب مايو 2021، التي توقفت بعد عشرة أيام، وكشف محمد السنوار القيادي البارز في الجناح العسكري لحركة «حماس»، وهو شقيق يحيى السنوار زعيم «حماس» في غزة، كشف مؤخرا أن «غرفة أمنية مشتركة» كانت تجتمع خلال الحرب الأخيرة يوميا للتنسيق، وتضم ممثلين للحرس الثوري الإيراني مع أقرانهم من «حزب الله» و«حركة حماس»، بهدف تبادل المعلومات المخابراتية، ومراجعة وتحديث بنوك الأهداف الحربية داخل كيان الاحتلال الإسرائيلي.
نعرف طبعا، أن قسما لا بأس به من صناع الرأي العام العربي، وأقساما من الرأي العام نفسه، تروج لاعتقاد عبثي، مفاده أن لا مشكلة هنالك بين إيران و«إسرائيل»، وأن الصدامات الجارية كلها تمثيل في تمثيل، بل إن هناك تحالفا سريا بين طهران وتل أبيب، هدفه تقويض الكيانات العربية، وقد لا يخفي الجانب النفسي في فكرة التفسير التآمري للوقائع المرئية، خصوصا لدى المواطنين وبعض الجماعات السياسية في العراق وسوريا ولبنان واليمن بالذات، وكلها أقطار عربية اجتاحتها رياح التوسع والنفوذ والإجرام الإيراني، وبعض هؤلاء لا ينكرون أولوية العداء لكيان الاحتلال الإسرائيلي من حيث المبدأ، لكنهم يعتبرون إيران بمثابة إسرائيل أخرى أو «إسرائيل شرقية»، ولا بأس عندهم من إضافة رتوش تكفير الشيعة تماما ككفر اليهود، والمعنى: إحلال التفتيت الطائفي محل الاندماج الوطني والقومي العربي.
وقد تعذر هؤلاء، وقد لاقوا ولاقت أوطانهم عذابا وقتلا وعنتا وتفكيكا من إيران وجماعاتها الطائفية المتوحشة، خصوصا تلك التي لم يكتب في سجلاتها واقعة إطلاق رصاصة واحدة ضد كيان الاحتلال الإسرائيلي، بينما حاربت جماعات شيعية عربية كيان الاحتلال وهزمته مرات، كما فعل «حزب الله» مثلا، الذي لم ينكر اعتماده الدائم بالمطلق على الدعم الإيراني، وهو ما فعلته جماعات «حماس» و«الجهاد» من البيئة السنية العربية الفلسطينية، لم تجد من يدعمها بالسلاح غير إيران، وطبيعي أن إيران تعمل، وأن مشروعها قومي فارسي، من وراء قناع إسلامي، وليس مشروعا قوميا عربيا بطبيعة الحال، وقد وجدت فراغا عربيا مغريا بالتوسع والتمدد، والحياة لا تعرف الفراغ، وكل فراغ تتركه خلفك يحتله غيرك.
وقد ورثت طهران «الخمينية» دور مصر القومي العربي السابق، وكان عام 1979 هو نقطة التحول الكبرى، ففيه خرجت مصر رسميا من المواجهة المسلحة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي بعقد ما تسمى «معاهدة السلام»، ودخلت إيران وريثا لقيادة المنطقة بثورتها الخمينية في العام نفسه، ثم أضاف سقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكي مددا إضافيا هائلا لطهران، إلى أن وصلت الأحوال المزرية إلى ما نحن عليه اليوم، وحيث لا تسمع حتى همسا كلمة المقاومة ضد «إسرائيل» في أي عاصمة عربية، بل لا تجد سوى اللهاث التطبيعي إلى محبة كيان الاحتلال، والانتقال من التطبيع الآثم إلى التحالف العلني مع «إسرائيل»، وهو ما يضيف وجاهة إقناع بدور إيران، رغم أصوليته الفارسية المؤكدة، بل بجعل طهران تبدو عربية أكثر من عرب الربع الخالي.
والخلاصة شديدة البساطة، فإيران تبدو وحدها في الميدان ضد «إسرائيل»، وإيران تبدو وحدها في وضع المنتصر لحق المقاومة الفلسطينية، وبالذات مع أوضاع الارتباك والتخلي في صفوف القيادات الفلسطينية الرسمية، ومع تراجع واختفاء أوهام التسويات على طريقة «أوسلو» وأخواتها الميتات، وعودة المواجهات اليومية الدموية مع قوات الاحتلال في غزة والضفة والقدس والداخل المغتصب منذ نكبة 1948، ودعم واشنطن غير المشروط لعجرفة وهمجية وعنصرية كيان الاحتلال وقطعان مستوطنيه، والخذلان الرسمي الدولي والعربي الشامل لقضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف، ووسط هذه الظروف كلها، وما تراكم من مآسٍ وكوارث وتقيحات واحتقانات في الأوضاع العربية بعامة.
من حق أي أحد أن يكره إيران أو أن يحبها، لكن السياسة الفعلية لكيان الاحتلال تكره إيران قولا وعملا، لا لشيء سوى أن طهران تدعم جماعات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وأنها طورت مقدرتها في التصنيع العسكري والصاروخي، وقفزت لدرجات عليا على سلم الصناعة النووية، وصار بمقدورها صناعة قنابل ذرية، وزاد تراكم مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة إلى أكثر من 3809 كيلوغرامات، حسب تقرير للوكالة الدولية للطاقة النووية، وكانت إسرائيل دائما وراء اغتيالات لعلماء نوويين إيرانيين، من مجيد شهرياري إلى داريوش رضائي ومسعود محمدي ومصطفى روشان قبل عشرة أعوام، وإلى اغتيال محسن فخري زادة، أبو المشروع النووي في طهران قبل نحو عامين، إضافة لاغتيال واشنطن للجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري، واغتيالات المخابرات الإسرائيلية لقادة آخرين في الحرس الثوري، لن يكون آخرهم حسن صياد خدائي في قلب طهران، وتدبير عمليات هجومية ضد منشآت إيران النووية والعسكرية، لن يكون آخرها الهجوم على موقع «بارشين» لتصنيع الطائرات المسيرة.
وقد تكشف العمليات الإسرائيلية عن خروق تتسع في احتياطات طهران الأمنية، وعن نشاط فائق الخطورة للمخابرات الإسرائيلية في الداخل الإيراني، وعن «حروب ظل» مستعرة بين طهران وتل أبيب، قد تأخذ من استقرار وهيبة النظام الحاكم في إيران، لكنها لا تؤثر جوهريا في المشروع العسكري والنووي الإيراني، فقد تخطت طهران عتبة المعرفة النووية، وقتل العلماء لا يفيد كثيرا، فوراء كل عالم يرحل علماء يخلفونه، ولا سبيل لقطع السلسلة إلا بتدمير وإسقاط النظام الإيراني نفسه، وهو ما تتصور «إسرائيل» أنها قادرة عليه، وتحاول جر واشنطن معها إلى حرب شاملة ضد إيران، خصوصا بعد وصول مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني إلى ما يشبه الحائط المسدود، فواشنطن كما تل أبيب، لا تريد لأي طرف آخر في المنطقة، أن يحوز قنابل نووية، وتريد أن يظل امتياز الرعب النووي محجوزا لإسرائيل وحدها.
وكل العواصم العربية عاجزة للأسف عن الدخول في سباق الحلبة النووية، رغم توافر الفوائض المالية المهولة والإمكانات العلمية، لكن بغير إرادة قرار سياسي مستقل، وهذا هو الفارق الجوهري بين طهران وعواصم الخليجيين العرب المحيطة، التي تستجير من الرمضاء بالنار، وتفضل الاحتماء بالمظلة الأمريكية، أو بالوقوف صفوفا راكعة وراء كيان الاحتلال الإسرائيلي، وخرافات قدرته العجائبية على تدمير الكيان الإيراني، بينما صنعت طهران دروعا أمامية لكيانها، تخوض عبرها حروب ظل وعلن مع «إسرائيل»، كفلت توسيع حدود حضورها العسكري المباشر من شواطئ الخليج إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وإلى العقد المتحكمة في البحر الأحمر جنوبا عبر دعم «الحوثيين» في اليمن، والتهديد المخيف لعواصم العرب في الخليج، إضافة لمحو «يمنية» اليمن، واستعماله كفراغ عربي تملأه بقواعدها، وتمارس به لعبة التضاغط مع واشنطن وقواعدها العسكرية، مع حيازتها «مضيق هرمز»، والتحكم به في حركة الناقلات البترولية، والاستفادة من علاقات التحالف النامية مع روسيا والصين المنافستين المناهضتين لهيمنة أمريكا الكونية.
وكل ذلك وغيره، يضيف عناصر قوة للموقف الإيراني، الذي يعاني من متاعب ومآزق واضطرابات اقتصادية واجتماعية في الداخل، لكنه يسعى لتعويضها بالتحايل على سلاسل العقوبات الأمريكية الغربية المفروضة ضده، وباستثارة الروح القومية الفارسية من حول المشروع العسكري والنووي، وبالتعبئة المتصلة ضد عدوانية كيان الاحتلال ورعاته الأمريكيين والغربيين عموما، بينما تكتفي النظم العربية بالغوص في رمال التيه، وبكسب محبة وعطف إسرائيل، على ظن أن «تل أبيب» أقصر طريق لجلب حماية واشنطن، وكأنهم يسلمون ضمنا وتصريحا، أنه لم يعد لهم من مكان ولا قرار في بلادهم، إلا أن تبقى العروش، وتتحول الأوطان إلى مرعى مفتوح، تتصارع فيه إيران وإسرائيل، ودونما مقدرة على التمييز ولا ترتيب لأولويات العداوة، فلا أحد ينكر وجود خطر إيراني فارسي النزعة، لكن الخطر الإسرائيلي يظل الأساس والأولى بالعداوة، ولو كان العرب الحاكمون حاضرين على جبهة الصدام مع كيان الاحتلال الاستيطاني الإحلالي، لما وجدت طهران مكانتها المتميزة اليوم، ولو كان لدى العرب الرسميين قرار مستقل وحشد للموارد المتاحة، لما وجدت طهران فراغا تمرح فيه، ودونما مبالاة بإقامة علاقات عربية إيرانية متكافئة، ترعى حقوق الجوار والاشتراك في الدين والمصالح.
اقراء أيضاً
يوم نكبة «إسرائيل»
«إسرائيل» المارقة وأمريكا المنبوذة
مأزق أمريكا الإيراني