إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، تظل الأمة في هوانها، وانقلاب معايير حكامها، الذين يقف أغلبهم سندا لكيان الاحتلال الإسرائيلي، ويواصلون سيرة التطبيع والاستخذاء الفاجر، الذي تتدافع أماراته بلون الفجيعة المقبضة، كلما قامت قوات العدو باقتحام باحات المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وعاثوا فسادا واعتقالا وضربا بالرصاص، وتنكيلا همجيا بالمصلين والمصليات شيوخا وشبابا وأطفالا، وقادوا قطعان المستوطنين وجماعات «الهيكل» لتدنيس المسجد بصلوات البغي، وهو ما صار يحدث كل صباح تقريبا منذ عام 2014.
وتحت عنوان «التقسيم الزماني» للحرم القدسي، وسعيا لتقسيم مكاني، تجري بعده إعادة بناء ما يسمى «هيكل سليمان» الذي لم تثبت كل الحفريات وجود أثر له، اللهم إلا في مرويات منسوبة للتوراة، لا يؤمن بها حتى كثير من حاخامات اليهود أنفسهم، وإن كانت «إسرائيل» تتخفى بها، وتريد استخدام الأساطير المكذوبة كتكئة لهدم المسجد الأقصى و»قبة الصخرة» بالذات، وفرض تقسيم «المسجد الأقصى» بين المسلمين واليهود، وعلى نحو ما فعلوا قبلها في «الحرم الإبراهيمي» بمدينة «الخليل» ومنح مساحة 60% من المسجد لليهود، ومنع رفع الأذان فيه.
وقد لا نريد هنا الاستطراد في مناقشات دينية، أو في تاريخ تعاقب الأديان والأنبياء، فليس لدى أحد من المسلمين أدنى رغبة في التنكر لدين سماوي، وهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعا، لا يفرقون بين أحد منهم، وليست القصة في ديانة اليهود، وقصة فلسطين ليست نزاعا دينيا، ولا مباريات في رفع الصلوات، بل قضية احتلال واستعمار استيطاني إحلالي، وأيا ما كانت الهوية الدينية للمحتلين الغاصبين، وقد أتوا في غالبهم من بلدان أوروبا الشرقية بالذات.
ومن دون أدنى رابطة تجمعهم سلاليا مع اليهود الأولين من «بني إسرائيل» وكان مؤسس الكيان بن غوريون بولنديا وملحدا، لا تعنيه اليهودية وأساطير التوراة، إلا بقدر ما تنفع في دعم الحركة الصهيونية، التي نزعت عن اليهودية كونها دينا، واصطنعت دعوى القومية اليهودية بدلا عن الدين اليهودي، وقامت على أكتاف أحفاد يهود «مملكة الخزر» مكان بالقرب من «أوكرانيا» الحالية، وهم «متهودون» بأمر ملكي وليسوا يهودا، في ديانة ليس فيها دعوة ولا تبشيرولا إضافة، وهو ما يفسر قدوم أغلب قادة إسرائيل الأوائل من بولندا وأوكرانيا، واستخدامهم النفعي تماما لأساطير التوراة وأرض الميعاد.
بينما الهدف كان مرتبطا تماما بالإمبريالية الاستعمارية، وبدعم عواصم الغرب الكبرى حتى اليوم، وبادعاء أن فلسطين خالية وأرض بلا شعب، وأن قضية فلسطين ستذوي من تلقاء نفسها، وبأقوال غولدا مائير الأوكرانية الأصل، فإن طرد الفلسطينيين من أراضيهم سيكون بلا عواقب، وإن الكبار سيموتون والصغار سينسون، وهو ما حدث عكسه بالضبط.
فقد جرى بعث الفلسطينيين من عوالم النسيان الموهوم، رغم طرد ثلثي الشعب الفلسطيني من أرضه في نكبة 1948، ورغم مرور نحو 75 سنة إلى اليوم، وموت وتعاقب أجيال، وتوالي جولات الذبح والنفي والتهجير، فإن المنسيين عادوا بهويتهم الأصلية إلى منصات الحضور الباهر، وصار الفلسطينيون أكثرية في بلادهم المحتلة بكاملها، وبعزم أشد على استعادة أرضهم المغتصبة بكاملها، وتحرير 27 ألف كيلومتر مربع هي كل مساحة فلسطين التاريخية، وليس فقط الستة آلاف كيلومتر مربع في غزة والضفة والقدس.
وبدت «القدس» المحتلة بكاملها في قلب تيار العودة، وتواصلت قيامات «القدس» في السنوات الأخيرة بالذات، وخصوصا في المدينة القديمة، التي تقل مساحتها عن كيلومتر مربع واحد، يجمع رموز التوهج الفلسطيني الكبرى، وفي قلبها «المسجد الأقصى» الذي ترفع الصلوات فيه، وفي «كنيسة القيامة» القريبة، وعلى رجاء استعادة الوطن الفلسطيني، وليس لمجرد أداء طقوس في طاعة الله، فلسنا بصدد ضمان حرية عبادة فحسب، بل بكون حرية العبادة طريقا لكسب حرية الوطن الأسير.
ليست القصة ـ إذن ـ في حرية العبادة وحدها، ولا في تأكيد حرية المصلين المسلمين بالوصول إلى مسجدهم المقدس، ولا في الحفاظ على ما يسمونه «الوضع القائم» في الحرم القدسي الشريف، واستمرار «الوصاية الأردنية» التي اتفق عليها كيان الاحتلال نفسه، ولا في وجود صوري منتهك لهيئة الأوقاف الفلسطينية، ولا في الحصار الإسرائيلي المسلح لجماعات المرابطين والمرابطات في المسجد المبارك، ولا حتى في تحرير المدينة المقدسة ذات الكيلومتر الواحد وأقل.
بل في المغزى الوطني المقدس لحركة المقدسيين من حول المسجد، فالقدس عاصمة الروح هي عاصمة الوطن الفلسطيني في الوقت ذاته، وترمومتر حرارة الحوادث من حول الحرم المقدس، هو ذاته ترمومتر حرارة الكفاح الفلسطيني لاستعادة الوطن من محتليه، والمرابطون دفاعا عن الأقصى يأتون من شتى نواحي الجغرافيا الفلسطينية، والصوت الذي ينطلق من باحات المسجد العتيق، يتردد صداه في مدن الضفة وغزة، وفي مدن وقرى الداخل المحتل منذ عام 1948، في تطور بات ملموسا متصلا في السنوات الأخيرة.
فقبل أكثر من عشرين سنة، كانت فلسطين تتقدم إلى انتفاضتها الكبرى الحديثة الثانية، على وقع اقتحامات شارون لأبواب المسجد الأقصى، وكانت معارك الانتفاضة المسلحة تتوالى، من غزة إلى معركة «جنين» عام 2002، ومع كل اقتحام إسرائيلي تكرر، كان صوت القدس ومسجدها يوقظ الهمم، من المواجهة الدامية عند أبواب الأقصى عام 2017 إلى التطورات الساخنة في عام 2021، حين قاد صوت وبسالة المقدسيين حركة قيامة فلسطينية شاملة، ودارت حرب «سيف القدس» التي عجزت فيها إسرائيل عن إحراز أي نصر، رغم التفاوت الهائل في قدرات السلاح لصالح كيان الاحتلال، وزحفت المواجهات بأكثر من أي وقت مضى إلى وراء ما يسمونه «الخط الأخضر» وجدار الفصل العنصري، وصارت حيفا ويافا واللد وأم الفحم على خط الجبهة الأمامي، تماما كغزة ونابلس ورام الله وجنين.
وكان وحي القدس وقيامتها، هو الذي وحّد حركة الشعب الفلسطيني على كامل أرضه التاريخية، كانت لذلك مقدمات وتباشير سبقت في الانتفاضة الثانية، التي تداعت حوادثها في الخمس سنوات الأولى من القرن الجاري، وارتقى فيها شهداء من الداخل الفلسطيني، وعلى خطوط المواجهة ذاتها في غزة والضفة، لكن جرى الذهاب إلى أفق مختلف في العام الأخير بالذات، فلم تعد غزة تحارب وحدها، كما في مواجهات 2008 و2009 و2012 و2014، بل صارت غزة مددا مباشرا لحروب المجموع الفلسطينى، وهو ما فرض إيقاعا جديدا، لم تصنعه صواريخ غزة وحدها، بقدر ما صنعته قيامة القدس ورمزيتها الجامعة، فالنور الذي ينبعث من كيلومتر واحد في المدينة المقدسة، راح يضيء قضية المصير الفلسطيني في عموم السبعة والعشرين كيلومترا.
وعلى نحو ما أنبأتنا به ملاحم توالت بعد «سيف القدس» من هروب الأسرى من «جلبوع» أكثر سجون الاحتلال تحصينا، وحتى عمليات المقاومة الفردية الجريئة في قلب أكبر مدن الكيان، من عملية «بئر السبع» إلى «الخضيرة» إلى «بني براك» إلى «شارع ديزنجوف» في قلب «تل أبيب» وقبلها في صحوة بدو منطقة «النقب» التي تشكل أكثر من نصف مساحة فلسطين، وبعدها في عودة ملاحم جنين، أقرب مناطق الضفة إلى مدن وقرى ومروج الداخل، وإلى حد جعل جنين ولاّدة الأبطال، كما لو كانت عاصمة ميدان للمقاومة الفلسطينية الموحدة الجديدة، وجعل قادة الكيان لا ينامون فزعا من جنين وأهلها وشبابها، ودفعهم لحصار جنين، وبأقسى مما تحاصر به غزة.
ورغم تواتر إشارات على دور لفصائل «فتح» و»الجهاد» وغيرها في جنين، إلا أن الطابع الشعبي المباشر للمقاومة الجديدة، يبدو في الصدارة، فإلهام المقاومة الجديدة، لا يبدو بأوامر تنظيم بعينه، بقدر ما يبدو انتقالا للقدوة والشعلة من مكان إلى مكان، صمود شبان وشابات القدس يظل في مركز دائرة الإلهام، ومبادرات شباب النقب وأم الفحم يجري تداولها وتكريسها عند أبطال جنين، وغزة المنفصلة البعيدة مكانيا عن القدس، تبدو كدرع جاهز لحماية الأسوار وصون المقدسات.
فلا يعبأ قادة كيان الاحتلال بشيء، قدر ما يحسبون الحساب لكل تهديد بالرد يصدر من غزة، وتظن أن هذه المعادلة الجديدة، سوف تلقي ظلالها على تطورات الوضع الفلسطيني في قابل الأيام والسنوات، رغم اتصال التشتت المهلك في الصف الأمامي الظاهر لحركة السياسة الفلسطينية، وضياعها في دوائر انقسام مفرغة، وطلبها لمدد لا يجيء من خذلان دولي وعربي وإسلامي، بينما تبدو حركة الشعب الفلسطيني في مدار آخر، يحتفل بقداسة وشجاعة وبطولة ووحدة العائدين من النسيان.
*نقلاً عن القدس العربي
اقراء أيضاً
يوم نكبة «إسرائيل»
«إسرائيل» المارقة وأمريكا المنبوذة
مأزق أمريكا الإيراني