يصعب تجاوز ما شهدته مدينة عدن التي يفترض أنها العاصمة المؤقتة لليمن من مواجهات قبل أيام. صحيحٌ أن الاشتباكات، هذه المرّة، لم تكن بين المجلس الانتقالي الجنوبي والقوات التابعة للحكومة، بعدما استسلمت الأخيرة، وتخلت عن إدارة المدينة أمنياً وسياسياً، واكتفت بدور المتفرّج إزاء كل ما يجري، لكن دلالات المعركة لا تقلّ خطورة.
الطرف المشترَك في الاشتباكات المتكررة دائماً ما يكون المجلس الانتقالي. والسبب يعود إلى أن القائمين على المجلس لا يزالون عاجزين عن مغادرة الدور العسكري والاكتفاء بالدور السياسي. يعيش المجلس الانتقالي، والحديث هنا عن هيئته السياسية وأذرعه العسكرية المتعدّدة، على فكرة وجود عدو يجب محاربته لتبرير بقائه، إن لم يكن الشرعية أو الحوثيين، فلا يبقى إلا الاقتتال فيما بينه.
وسواء أكان الأمر يتعلق هذه المرّة بتنافس على المغانم وفرض الخوّات والسطو على الأراضي الخاصة والعامة أو تمرّد لأسباب عسكرية، إلا أن التداعيات لما حدث لن تنتهي مع توقف الاشتباكات والاعتقالات.
تتراكم المؤشّرات منذ فترة، لتشي بأن المليشيات المنفلتة سيأكل بعضها بعضاً متى سنحت لها الفرصة لذلك، مهما حاولت القيادات ادّعاء عكس ذلك. ساعات الاشتباكات الطويلة في كريتر التي استخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة مرشّحةٌ للتكرار في المديرية وغيرها من مناطق عدن، أو باقي مدن الجنوب، بعدما تحوّلت، بفعل سنوات الحرب، إلى بؤرة للمليشيات متعدّدة الولاءات والأهداف، وغابة للسلاح.
وعلى غرار إمام النوبي، المعروف بتشدّده ودمويته ومسؤوليته عن قتل ناشطين ومواطنين، واختطافهم وتعذيبهم، يوجد عشرات مثله ممن نالوا، طوال السنوات الماضية، غطاء المجلس لممارسة مختلف أنواع الانتهاكات. ولم تكن لدى المجلس أي مشكلة معه أو مع غيره، إلا عندما بدأ بالتمرّد والتغريد خارج السرب.
وما كان يشكو منه مواطنون وسياسيون من تفلّت أمني وعمليات نهب وبلطجة، ويُردّ عليهم بأنهم يهدفون إلى تشويه المجلس وإفشاله خدمة للشرعية والحوثيين، بات اليوم الحديث عنه علنياً، حتى ممن هم يحسبون على "الانتقالي"، ويجاهرون بأن الآتي أسوأ إذا ما استمرّت الأمور على حالها.
عوضاً عن الأمن الذي وعد به الانتقالي سكان عدن، أهداهم مزيداً من اللااستقرار، بعدما أظهرت الأحداث أن المواطنين هم مجرّد رهائن وعرضة للقتل والحصار بين متقاتلين يُفترض أنهم في الصف نفسه، لكن تبين أنهم لا يتورّع بعضهم عن نشر دعوات إلى "الجهاد" ضد بعض.
يمكن تصوّر أن المرحلة المقبلة ستشهد تصفية حسابات وإعادة ترتيب للاصطفافات داخل المجلس، خصوصاً بعد إقالة مختار النوبي، شقيق إمام من منصبه نائباً لقوات الحزام الأمني، القوة الرئيسية التي يعتمد عليها المجلس. فالخطوة، وإنْ يمكن تفسيرها محاولةً لاحتواء الغضب بعد تمكّن إمام النوبي من الخروج من عدن، والاتهامات الموجهة إلى مختار بمساعدته لتحقيق ذلك، إلا أنها تعكس قدرة المجلس على التضحية سريعاً بكل من يمكن أن يشكّل تهديداً له، من دون أن يكون قادراً على التحكّم بالتبعات بالضرورة.
مصير مدينة عدن وجوارها بات رهناً بما ستحمله الفترة المقبلة، فالمدينة تغلي غضباً منذ ما قبل الاشتباكات، جرّاء الأوضاع المعيشية والاقتصادية التي تزداد تردّياً. واقتران الغضب الاجتماعي مع التوتر الأمني هو بمثابة وصفة للانفجار في أي لحظة، إذا ما تهيّأت الظروف المساعدة له.
*نقلاً عن صحيفة "العربي الجديد"
اقراء أيضاً
مهزلة الرصيف العائم
المنظور الأميركي للمحكمة الجنائية الدولية
انتفاضة الجامعات الأميركية