قبل أيام، أخبرني "أكرم" أن الديوان صار فارغًا من الأحاديث والناس. سرد لي بحسرة أين ذهب الأصدقاء. "هناك من هاجر، وهناك من ذهب إلى القتال ولم يعد. وبعض الأصدقاء حوَّلَتهم الحرب إلى أعداء يترصد بعضُهم بعضًا. والقليل ممن بقي أغلق باب منزله وحيدًا. لقد حولت الحرب ديواننا إلى مأتم مفتوح".
في عامي الأول في جامعة صنعاء، تعرفتُ إلى "أكرم" الذي وجدتُه إلى جواري في محاضرات مادة الاقتصاد. بدأتْ أحاديثنا بصفتها نوعًا من التنفيس، للهروب من ملل التفاصيل الفنية التي يوردها أستاذ المادة. قادتني تلك الأحاديث إلى التعرف إلى "أكرم" أكثر. مثقف وصاحب علاقات واسعة. ومع أننا التحقنا بالجامعة في نفس السنة، بدا كمن يَعرف معظم من في الدفعة. وكعادة طلاب الجامعة، كنا نلتقي في جلسات العصر بشكل شبه يومي. ولقاؤنا الدائم في ديوان "أكرم" كان في حي الزراعة القريب من الجامعة. العنوان هو "مراجعة المحاضرات الجامعية"، لكن اللقاءات تتحول دائمًا إلى نقاشات سياسية مفتوحة.
أتذكَّر مسافات التباين بيننا في الكثير من الأشياء. معظمنا ينحدر من مناطق جغرافية مختلفة، لهجاتنا متعددة، ورؤانا السياسية لا تتقاطع في المنتصف. لا أزال أتذكر عبارة أكرم الشهيرة: "مش صح نجلس نسمع لأنفسنا بس"، وهو يشاركنا شغفه بسماع الآخَر المختلف. ومع الاختلافات الفكرية والسياسية الكثيرة، وما يرافقها من أصوات تعلو وتخفت، فإنَّ نهاية كل جلسة هي لحظة مهمة، تستضيف فيها هواتفنا أرقام أصدقاء جدد. كانت جلسات الديوان تَنسج الصداقات بطريقة عنقودية. معظم زياراتي للكثير من المحافظات والمناطق اليمنية، كانت بفضل صداقات الديوان. وبالنسبة إلى الكثير منا، كانت جلسات العصر في الديوان أهم من محاضرات الصباح في الجامعة.
كان سقوط صنعاء في العام 2014 بداية التغريبة. بدأت صنعاء تفقد ملامحها شيئًا فشيئًا. وتنحسر الآراء المختلفة من الميادين العامة، ومن الشوارع، ومن الصحف اليومية، ومن كل شيء حولنا، حتى وجدنا أنفسنا لا نرى إلَّا لونًا واحدًا، يمارس سطوة القمع مع كل شيء لا يشبهه. مع مرور الوقت، صارت طبقات اللون الداكن تضيق ذرعًا حتى بالطبقات الفاتحة من اللون ذاته. تسللت الحرب إلى داخل الديوان، وتربعت على أجواء المكان. فقدْنا من بعدها الكثير من الأصوات التي باتت أماكنها فارغة.
لقد كانت الحرب مِثل "تسونامي" كبير، جرف معه الكثير من الأشياء من داخلنا أولًا، ومن حولنا ثانيًا. الآراء التي كان يتسع لها الديوان، ويَخرج القائلون/ات لها أصدقاءَ لا خصومًا، صارت انقسامًا حادًّا، يَدفع المختلفين/ات إلى التخندق في الأرض. والرأي الذي كان يقال بالفم، أصبح يقال وبجواره رصاصة، تُوَجَّه مِن قائلهِ نحو مستمعِه إن رفض. مساحة قبول الرأي المختلف تضاءلت حتى تلاشت. لقد غيرت الحرب طبائع الكثيرين/ات، فمنحتهم مسالك جديدة لقول الأشياء، للتعبير، ولممارسة الحياة.
لا يمكن قراءة الحرب باعتبار أنّ مساحتها الخطوط الأمامية للجبهات القتالية -بحسب ما يجري تصويرها-، بل هي أمر أكثر تعقيدًا. إنها تكثيف بالغ للكثير من التفاصيل التي تتفاعل في المجتمع بطريقة طردية، وتترك أثرًا في قعر سلوكه العام. زادت وتيرة التشظي الاجتماعي، حين تَرافق مع الانقسام الجغرافي. يمكننا ترتيب المشهد في اليمن، عبْر النظر إلى أن كل جغرافيا باتت تُمثِّل سردية مستقلة، ووجود سردية مضادة لها هي أُمُّ الخطايا.
بالطبع، لا يجب مقاربة الحرب بوصفها حدثًا قدَريًّا، أو مَلحمة إلزامية جاءت من السماء، بل باعتبارها نتيجة لِحُزمة من السلوكيات والأفعال، كان من الطبيعي أن تصبح الكارثة نتيجتها. وجميعنا بلا استثناء، شاركْنا أو نشارك فيها بقصد أو بدون قصد. ومَن لم يستطع المشاركة في الفعل والحديث، يشارك في السكوت، أو الهروب من الدَّور الذي كان يجب أن يصنعه قبل حلول الكارثة. فالحرب هي إجمالي التفاعل غيْر السويِّ للمجتمع.
في آخر اتصال لي بـ"أكرم"، تحدثتُ إليه وقتًا طويلًا. كان صوته مُتعَبًا للغاية؛ إذ أصبح يقضي وقته بين البيت والمشفى. تَذكَّرنا أحاديث الديوان، بكينا من الفرح، وضحكنا من شدة الحزن لِما آلت إليه الأحوال. وعند ختام الحديث، قال لي: "أخاف ألا أنجو، لكن إن جئتَ إليَّ أو جاء أحد الأصدقاء غدًا، فستجدون مفتاح الديوان مخبَّأً تحت سجاد الباب".
*نقلاً عن موقع "تعددية"
اقراء أيضاً
بيروت مقابل مأرب؟
عربة المثقف التي يقودها جمهوره