المثقف الشَّعبوي هو إحدى الظواهر، التي أبرزَتها حقبة المعلومات السائلة التي نعيشها. فهذا النوع من المثقفين بات يضع أفكاره ونشاطه الثقافي في بلاط الجمهور، طمعًا بعائدات الاحتفاء الجماهيري أو خوفًا من العزلة، متخلِّيًا عن الدور الحقيقي للمثقف في رفد حركة النقد ومبادرات التغيير والرؤى الإصلاحية، ونقد الأخطاء المجتمعية السائدة ومقاومتها. وهي أدوار لطالما عُرف بها المثقف.
علاقة المثقف الشعبوي بجمهوره، يمكن فهمها بوضوح إنْ عرَفنا الاتجاهات الحديثة للسوق وفق النمط الرأسمالي. فالمثقف بصفته مُنتِجًا للأفكار بات يخضع لأذواق جمهوره، أي شريحة المستهلِكين لأفكاره، وقوانين العرض والطلب، ومستوى السرعة في الإنتاج. وما دام أن الهدف النهائي هو الربحية وفق قوانين السوق، فإن شريحة كبيرة من المثقفين باتت تنظر إلى ما تَقدَّم من محتوى ثقافي، من زاوية سرعة بيعه، شريطة عدم المجازفة بمخالفة رغبات الجمهور.
بمجرد المرور على الكثير من صفحات المثقفين، الذين باتوا يتصدرون العالم الرقمي، نجد أن الكثير منهم تَحوَّلوا إلى مُزوِّدين للمعرفة التي يطلبها جمهورهم، أي أننا أمام دور مختلف للمثقف، يمارس فيه دور العلاقات العامة للحصول على ربحية الاحتفاء لا التثقيف. هذا إذا ما افترضنا حسن النية في استقلالية خط المثقف عن السلطات السياسية الحاكمة. هذه الحالة تشكلت بشكل كبير مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي بدورها جرفت الكثير من الأعراف السائدة في أوساط الحركة الثقافية، سواء لناحية إنتاج المعرفة أو لناحية توزيعها ومشاركة المجتمع فيها.
من ناحية إنتاج المعرفة الثقافية، كان المثقف قديمًا يعيش في ظرفية مكانية يتحكم في ملامحها، كالفئات التي يتداول معها أطراف الحديث، والصالونات الثقافية التي يقصدها، وأجواء التفكير البعيدة عن الضجيج، أي أن معامل إنتاج المعرفة الثقافية كانت بعيدة بعض الشيء عن الجمهور. ولذلك، لم يكن المثقف في حاجة إلى تغيير هذا النمط. اليوم، تغيَّر الأمر كثيرًا. فصارت عملية إنتاج المعرفة ونشرها تجري في الآن ذاته، ولم تعد المناقشة والتفاعل والتغذية الراجعة حكرًا على فئة من المستوى الفكري للمثقف، بل صار أي فرد قادرًا على أن يساهم في إبداء رأيه حول المعرفة المنتَجة حديثًا. لذلك، يسعى المثقف إلى عدم الاصطدام بالجمهور، بل إلى الذهاب إلى مواكبة السائد.
وفق ذلك، تحولت العملية الثقافية برُمَّتها من حالة المثقف الذي يصنع جمهورًا، إلى المثقف الذي يصنعه الجمهور. ولذلك، رأينا الكثير من الشخصيات التي تصدرت الفضاء الثقافي، لم تكن كفاءتها امتلاكَ المعرفة التي تجعلها في الصفوف الأولى، بل كانت قدرتَها على فهم قواعد السوق، أي القدرة على تسويق ما تَقدَّم من محتوى ثقافي يحقق قدرًا كبيرًا من الانتشار. في المقابل، اختفى العديد من المثقفين عن الأنظار، أو بَقُوا في دوائر محدودة للغاية، بعد أن كانوا رموزًا في زمن الحركة الثقافية التقليدية، بسبب عدم امتثالهم قواعد هذا السوق.
امتدت هذه الظاهرة إلى الطريقة التي تتحرك في إطارها المنتَجات الثقافية. على سبيل المثال: كانت جزالة اللغة أو عمقها ميزة مهمة لمحتوى المثقف وكتاباته. أما اليوم، فقد صار هذا الأمر مذمومًا شعبويًّا، وصار لزامًا أن يحوِّل المثقف أفكاره إلى مقاسات تناسب مفهوم الجمهور، أو يتخلى عن اللغة الثقافية التي سادت، ويُسلِّم الأمر إلى اللغة المحكية أو اللهجات الدارجة، بوصفها شرطًا لِرَواج المحتوى الثقافي المقدَّم. في نفس السياق، صار “المثقف العميق” مادة للسخرية، باعتباره شخصًا كلاسيكيًّا يعيش في النظريات على حساب الواقع. هذا لا يعني أن الثقافة لا يُعبَّر عنها بكلمات بسيطة، ولكني أوضح المستوى الذي وصلت إليه معاييرُ عُدَّت ذات يوم شرطيةً ثقافية.
ثمة أمرٌ آخر يتعلق بنرجسية المثقف، إذ كان المثقف قديمًا لا يستطيع مقاومة جبروت اللحظة إذا ما وقف للحديث، ووجد الجماهير تملأ الأماكن للاستماع له، لأن سياق التفاعل حينذاك كان يحمل دلالات عدة. اليوم، الاحتفاء الشعبوي بما يُقدِّمه المثقف يشعره بالنشوة، ويجعله يسعى للحفاظ عليه، بل وللاستثمار أكثر في مقاربات استرضاء الجمهور. لذلك، تُقدِّم رموزُ “الإعجابات” المتدفقة لِما يقدمه الكاتب من محتوى حالةً من السعادة لديه، وتُثبَت معها قناعة الاستمرار، وبات التباهي بمستوى إعجاب المتابعين، مؤشِّرًا شائعًا يدل على صوابية مسار المثقف.
المثقف الشعبوي ظاهرة تستحق الدراسة، لأنَّ خلْف تشكُّلِه منطقٌ يَحكم سوق التفاعل الثقافي. ويبقى السؤال الأهم، وهو: كيف يستطيع المثقف الناقد تحويل منطق الشعبويات، إلى تبادلية ثقافية تسمح بالمشاركة في الأفكار، دون الوقوع في فخ تأثير سلطة الجماهير؟
اقراء أيضاً
بيروت مقابل مأرب؟
الحرب التي فخخت ديوان المدينة