قرأت ما كتبته الكاتبة اليمنية ميساء شجاع الدين "هل ما يزال الحل السلمي في اليمن ممكنا"، في "العربي الجديد" (15/2/2017)؛ فأنا من قرّائها المعجبين بذكاء القراءة واستشراف المستقبل. أتفق مع جل قراءتها المشهد السياسي لمسار الثورة الشعبية السلمية في اليمن، ولواقع الحال المتحارب، ولطبيعة القوى الحربية التي تتصدر المشهد حالياً. وأختلف مع الباحثة في النتيجة التي وصلت إليها، وهي أن طريق السلام مسدود. إنها ترى أن طريق السلام لا يفتح إلا بحربٍ ضد الحرب؛ فالقوى التي وصلت بالعنف لن تخرج إلا بالعنف. ولكنه عنفٌ تمارسه قوى وطنية مغايرة ومختلفة. وذلكم حلم إنساني نبيل وجميل. والسؤال: أين هذه القوى المتمناة؟ من هي؟ ما طبيعتها؟ من أين نأتي بها؟
واقع اليمن، كل اليمن، مليشيات تتصارع، تقتل المدنيين بأكثر مما تقتل نفسها. الباحثة ابنة مدينة تعز، مدينة المدنية والثقافة والتحديث، وتأسيس النقابات والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، ما الذي يجري في هذه المدينة؟ مليشيات متصارعة تتقاتل مع بعضها، يغتالها الجوع والعطش، وحصار مليشيات علي عبدالله صالح وأنصار الله.
اليمن كله مفكك وممزق. توزعت الأحزاب على المليشيات الآتية من مضارب داحس والغبراء. مؤسسات المجتمع المدني الناشئة أخرسها العنف الدموي. المدن ملغومة بالمتقاتلين. المختطفون والمعتقلون والمختفون من الصحافيين قسريا فقط سبعة عشر صحافيا في صنعاء. المشرّدون أكثر من ثلاثة ملايين. الجوع يطحن غالبية السكان. التفكّك والتصدّع والمجاعة والإرهاب يغطون الشمال والجنوب.
فمن أين، يا ميساء، نأتي بالقوة الوطنية القائمة على التعاقد المجتمعي على الدستور، وليس السلاح؟ والمأساة أن هذه القوى مقموعة بالحرب، وخيارها ليس السلاح الذي لا تعرف حمله واستخدامه. وحتى هذه القوى لو أتت وانتصرت بالسلاح، فلن يكون خيار تعاقدها إلا بالسلاح. حركات التحرّر الوطني في العالم، وكلها آت من اتجاهات مدنية وسياسية، عندما انتصرت بالسلاح أصبح السلاح عندها الشرعية الثورية، ولم تشأ أو لم يستطع بعضها التحول إلى الشرعية الديمقراطية، والشواهد كثيرة.
الحرب المعلنة منذ آماد متطاولة، وبالتحديد منذ انبلاج فجر الثورة الشعبية السلمية، كانت في أساسها رداً على السلم الذي لا تعرف سبيلاً لمواجهته إلا بالسلاح. الحروب التي دارت في أرحب ونهم والحيمتين والوسطى كانت، في جانب معين، حربا بين القوى التي حكمت طوال الثلاثة والثلاثين عاما، لكنها أيضا كانت ردا على الثورة الشعبية السلمية المؤسسة أسلوبا جديدا غير حكم الغلبة والقوة، الموروث في حكم اليمن عبر التاريخ، فالحرب، في جوهرها، ما كانت إلا للتأكيد على شرعية السلاح الأبدي، وهو أيضا حرف للثورة السلمية عن مجراها الأساس، وجر للأحزاب المدنية إلى الحرب، وهي حرفٌ للأنظار عن مخرجات الحوار والتعويل على دستورٍ لا تريده كل الأطراف المدنية والأحزاب الكبيرة الموالية لأطراف الحرب. وفي عبر التاريخ الإنساني كله، الحرب لا تلد إلا الحروب، والحروب هي الأكثر شؤما وبشاعة وتدميرا. لن نعود إلى خبرة الشاعر الجاهلي عمرو بن أبي سلمى: وتضر إذا ضريتموها فتضرم/ فتولد لكم أولاد أشأم كلهم.
وأين هذه القوة التي تمثل المجتمع ككل. المجتمع منقسم إلى مناطق وجهات وأطراف الصراع. كانت غالبية المجتمع مع الحوار، ومع مخرجاته، ومع الدستور الجديد، لكن الحرب جرفت البلد، وفرضت العنف الأعمى على اليمن كله. غاب صوت الحوار والمنطق والعقل. لن نعود إلى خبرة الشاعر الجاهلي، عمرو بن أبي سلمى ابن عبس وذبيان، فالوقائع المعاصرة حولنا، أفغانستان والصومال وراوندا وداخل بلادنا العراق واليمن؛ فاليمن بلد الحروب المتوارثة والمتناسلة منذ أزمنة متطاولة؛ فالتصدّي للحرب بالحرب مداواة للداء بالداء.
العنف يولد العنف، والحرب تزيدها الحرب اشتعالا؛ فإن العود بالعودين يذكى، كحكمة نصار بن سيار، فاليمن كما يصفه الرائد المجدّد محمد أنعم غالب: محارب قديم شجاع ومتقن لمهنة الحرب.
أنا المحارب الشجاع../ أجيد إطلاق الرصاص../ رصاصتي لا تخطئ الهدف../ الحرب لي عمل.
ما يجري في اليمن حربٌ أهلية بامتياز. القوى الحاكمة عاجزةٌ عن الاستمرار في الحكم بدون الحرب ومقتلها في السلم. الرهان على القوى الصامتة، دعوتها إلى التنادي للسلام، صنع السلام داخل عشائرها ومناطقها وجوارها وأخوتها القبلية والجهوية. السلام ليس المستحيل، والمحيط الإقليمي لحل خلافاتهم الإقليمية ومساعدة اليمنيين على الخلاص من حربٍ تدمّر بلدهم الجائع والمفكك.
خبرة التاريخ في اليمن تقول عكس رأيك، يا ميساء، تماما. حروب الشمال والجنوب في 1972 و1979 انتهت بالوحدة التي مثلت مصالحةً وطنيةً جرى الانقلاب عليها من تجار الحروب. الثورة الشعبية السلمية ثورة الربيع العربي هي ما أسقط نظام صالح، ويحاول اليوم استعادته عبر الحرب. وعندما زحف جيش التحرير الوطني الجزائري، تحرّك الآلاف ومئات الآلاف من الجزائريين، ووقفوا في وجه الجيش الزاحف، ومنع اقتتال جيش الثورة. وفي سورية المتحاربة في غير منطقة، يتصالح أبناء هذه المناطق لوقف الاقتتال، وتمتلك القبائل اليمنية خبرة تاريخية هائلة لمثل هذه النماذج، ومراوحة الاقتتال، في كثير من مناطق الشمال، مردها إلى هذا النوع من الاتفاق. ونجحت التجربة في بعض مناطق إب، وجرى إفشالها في تعز، وتنأى حضرموت بنفسها عن الحرب بعد طرد جماعة القاعدة.
هناك طرق عديدة لفرض خيار السلام. التصالح المجتمعي في المناطق والقبائل والأحزاب السياسية. التحرك على المستوى الإقليمي وتبني مواقف المساعي العمانية والكويتية الدبلوماسية بين الدول الخليجية، وتحديدا السعودية وإيران، ثم المطالبة بالضغط الدولي على هذه القوى الإقليمية المنخرطة في الحرب في اليمن، لحل مشكلاتها، وتشجيع الحل السياسي في اليمن ووقف الحرب والحصار. وما يدرينا أن هذه الأغلبية الصامتة اليوم ستكون الصوت المدوي غدا. ولقد تراه في السكينة إنما/ خلف السكينة غضبة وتمردُ. كشعر البردوني العظيم.
الشعب الذي نزل إلى الميادين في 11 فبراير/ شباط 2011 قادر غدا أو بعد غد على التصدي سلميا لتجار الحروب ومرتزقتها. أما القول إن اعتزال الحرب ليس سلما، طالما لا يوقفها قرار الاعتزال؛ فهل يعني أن المعتزل في هذه الحال يعتبر محاربا أم ماذا؟ بعض المثقفين والسياسيين يعتبرون الحياد خيانة، وبعضهم يرفض المناطق الرمادية، ولله في خلقه شؤون.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
عن اليمن ومسار الحرب
القدس مدينة السلام