كنا نكتب في التسعينيات، ونحذّر من انزلاق العراق نحو الهاوية، وأدوات ذلك الانزلاق ما كانت تعرف بـ "المعارضة العراقية في الخارج"، وقلنا في ذلك الحين إن الأحزاب التي تأسست وعاشت في طهران ولندن وواشنطن و.. هي منظماتٌ عميلةٌ لدول الإقامة والتمويل والتوجيه، وهمّها الانقضاض على العراق وثرواته، وتقديم الولاء لعواصم إقامة تلك المنظمات الانتهازية.
قلنا في حينة إن العراق يحكمه نظام لا طائفي (حزب البعث)، وأكدنا، بالدليل القاطع، أن معظم كوادر الحزب الحاكم ونخبه وقياداته في العراق من العراقيين العرب الشيعة الأمجاد، وقلنا احذروا انحراف المجتمع نحو الطائفية، فإنها إن تمكّنت ستقود العراق إلى الهاوية (راجع كتابي "أحبك يا بغداد").
تحدثنا عن الصفوية، وما فعلت بالعراق. وظن بعضهم أننا نمس من قناة إخواننا شيعة العراق، أو الشيعة العرب، وهذا أمر لم يراود فكر الكاتب... واليوم في العراق ولبنان، وحتى في اليمن، ثورة شبان وشابات وشيوخ وكهول في صف واحد في جغرافيا متباعدة، يطالبون بسقوط حكم الطائفية ونظام المحاصصة.
(2)
الشعب في جنوب العراق ووسط وبغداد (ليس بينهم داعشي ولا تكفيري ولا ناصبي) خرج يطالب بإسقاط الحكومة، أي النظام الطائفي المبني على المذهب الشيعي، وعجزت الأحزاب الطائفية عن أن تجد البديل للخروج مما أوقعت العراق فيه.
طُرحت عدة أسماء شيعية لتحل محل رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، فلم تجد استجابة من الأحزاب والتشكيلات المتنفذة (حزب الدعوة، المجلس الأعلى، منظمة بدر، والتيار الصدري، والصادقون والفضيلة، وآخرون)، لأن كل تلك الأحزاب والكتل تتنظر مباركة من "الولي الفقيه" قبل مباركة الشعب العراقي. وقد اعترفت المرجعية الطائفية في العراق جهارا نهارا بأن "العراق يعيش، منذ عام 2003، حقبة طويلة من الفساد والمحاصصة المقيتة وغياب العدالة الاجتماعية". وجاء هذا البيان على لسان خطيب الجمعة في كربلاء، الشيخ عبد المهدي الكربلائي، الناطق باسم المرجع السيستاني.
إذا، منذ العام 2003، وفي العراق "حياة مقيتة وغياب للعدالة الاجتماعية"، إلى جانب نهب للمال العام، وأصبح العراق في عهد "الديمقراطية الطائفية" بلا كهرباء، ولا صرف صحي لمدن العراق العريقة، ولا مدارس. وامتد النفوذ الطائفي الفاسد إلى الجامعات والمعاهد لإصدار شهادات أكاديمية عليا لكوادر الأحزاب الطائفية، لكي يتبوأ أصحاب المؤهلات المزورة مناصب قيادة عليا، وهم شبه أميين.
لا تقبل "مؤسسة الولي الفقيه"، بأي حال، خروج منصب رئيس الوزراء في العراق عن نفوذها، بمعنى عدم دخول أي شخص جديد على هرم رئاسة الوزارة إلا بموافقة ممثلي هذه المؤسّسةـ وهم حزب الدعوة، والمجلس الأعلى، ومنظمة بدر، وتكتلات شيعية أخرى، منهم صادقون، والفضيلة، وآخرون.
وفي مكتب رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، خلية طائفية مصغرة، تخطّط الحياة السياسية في العراق، وتنظمها وتديرها، تتكون من أبو جهاد الهاشمي مدير مكتب الرئيس، وأبو منتظر الحسيني المستشار لشؤون الحشد الشعبي، وفالح الفياض وزير الأمن، وآخرين معروفين بعلاقاتهم الوثيقة بالمؤسسة آنفة الذكر. ولهذا لا يستطيع رئيس الوزراء أن يبتّ في أمرٍ يتعلق بالدولة العراقية، من دون موافقة تلك الخلية المهمة في جسد النظام السياسي في العراق.
ويتضح من كل ما سبق وغيره أن إصلاح النظام السياسي في العراق لن يكون أمرا سهلا على أي طرفٍ لا يأتي عبر الأحزاب المهيمنة على مقدّرات الشعب العراقي. وعلى ذلك، لا بد من الاستجابة لمطالب الشعب العراقي الثائر اليوم، وأهمها إسقاط النظام الطائفي وإلغاء نظام المحاصصة وإلغاء نظام الانتخابات الراهن، لكي يستقيم الأمر بعد اعوجاجه.
(3)
تحاول الإدارة السياسية في بغداد اليوم تخدير الشعب العراقي الثائر بإعلان قرارات تقول إنها إصلاحات، من قبيل تخفيض مرتبات كبار المسؤولين إلى النصف، وتعديل سلم الرواتب لإنصاف الشرائح الدنيا في الوظيفة، وتحقيق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية، وتطبيق نظام التعويضات الاجتماعي.
وفي الجانب الآخر، سحب أي سلاح خارج سلطة الدولة.. يا للهول! بعد ستة عشرة عاما من استيلاء لصوص وحاقدين وثأريين على مقاليد الحكم في العراق، بمعونة أميركية إيرانية يأتون اليوم لتطبيق ما سموه "إصلاحا"، وهو نظام كان معمولا به في حكم حزب البعث، بقيادة صدام حسين، وألغته سلطة الحكم التي عينها الأميركان 2003.
وكان رئيس الحكومة العراقية السابق، حيدر العبادي، قد أصدر قرارات إصلاحية، منها إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية، وفي مواقعها نوري المالكي وإياد علاوي وأسامة النجيفي. وألغى مناصب نواب رئيس الوزراء، وهم روز نمزري شاوس وبهاء الأعرجي وصالح المطلك. (لاحظ التقسيم الطائفي الخبيث).
وأصدر العبادي أيضا قراراتٍ منها تقليص عدد أفراد الحراسة (الحماية) للمسؤولين في الدولة. وقرارات أخرى بهدف الإصلاح، إثر احتجاجات شعبية، ولكن تلك القرارات لم يتم تنفيذها، لأن "الحكومة الخفية لا تريد إصلاحا"، لأنه يتنافى مع مصالحها. واليوم يحاول رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، تقديم مشروع إصلاحي، لكن محاولته ستصطدم بالواقع الطائفي.
وغريب أن الرئاسات الثلاث (رئاسات الجمهورية ومجلس النواب والحكومة) ورئيس القضاء الأعلى، قرروا ملاحقة المتهمين بالفساد (مدراء عامين ومحافظين وموظفين صغار)، ولم يتم التحقيق مع رؤساء حكومات سابقين، وفي مقدمتهم نوري المالكي وإبراهيم الجعفري. لم يتم استدعاء أعضاء مجلس الحكم الذين نصبهم حاكم الاحتلال الأميركي، بول بريمر. ولم يتم استدعاء وزراء الكهرباء والري، ولا رئيس البنك المركزي في عهود مجلس الحكم، ومن بعده الثلاثي الرهيب، نوري المالكي وإبراهيم الجعفري وحيدر العبادي.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
الحرب في أوكرانيا والهموم العربية "اليمن نموذج"
طالبان حركة إسلامية تحكم أفغانستان
القدس عروس عروبتكم.. هل من غيرة لحمايتها؟