قد يبدو غريبا أن يهتم من هو مثلي بحالة محمد صلاح، فلست على علاقة مودة بكرة القدم، لا هواية ولا إدمان مشاهدة للمباريات، ولا لعب بطبائع الأحوال، وقد لعبت مباراة واحدة في حياتي، كانت في فناء مدرستي الريفية، وكنت تلميذا في الصف الخامس الابتدائي، ونجحت في إحراز فشل لا يصدق، وسددت بطريق الخطأ خمسة أهداف في مرمى فريقي المسكين، وكانت تلك نهاية القصة التي لم أعد لمثلها أبدا.
ربما لذلك، يبدو لي لاعب كرة القدم كأنه يصنع شيئا عجبا، تماما كما يبدو لي الفنان التشكيلي، ومحمد صلاح لاعب وفنان في الوقت نفسه، فلا توحي هيئته النحيلة بلياقة بدنية عالية، وبقدر ما توحي بتكوين فني ظاهر، يبدو في طريقة إطلاق لحيته، وفي تسريحة شعره المهوشة، وفي ابتسامته الطفولية الطيبة، وكأنه خارج لتوه من مرسمه المنعزل، وربما كانت بساطته اللافتة، التي يبدو فيها كأي شاب مصري تصادفه في الشوارع وعلى النواصي، هي التي فتحت طريقه السريع الممهد إلى قلوب الناس، فلا عجرفة ولا تكبر، ولا زهو منتفخ الأوداج، بل موهبة فطرية تلقائية، قد يكون صقلها التدريب المتصل، وحافظت عليها الاستقامة الخلقية، لكن التدريب وحده، ومهما بلغت براعة أساليبه، لا يصنع لاعب كرة قدم بحجم محمد صلاح، واستقامة الأخلاق جمعته مع محمود الخطيب ومحمد أبو تريكة، وقد صنع الخطيب وأبو تريكة مجدا كرويا لا ينسى، لكن محمد صلاح جاء عنوانا لطفرة صاروخية، وارتقى قمما لم يبلغها من قبله لاعب مصري، ولا لاعب آخر من أرجاء المعمورة العربية، بل صار منافسا على القمة الدولية، واختارته «الفيفا» ـ الاتحاد الدولي لكرة القدم ـ واحدا من ثلاثة مرشحين فقط لجائزة أفضل لاعب في العالم.
وقد يقال إن قصص النجاح كثيرة، وإن تفوق المصريين ظاهر في مجالات الرياضة والأدب والفن والعلم، ومتى ما اتيحت لهم الفرص العادلة المتكافئة، وكل هذا صحيح، فالمصريون ليسوا شعبا عنصريا يزهو بتفوق عرقي، وهم أبعد الناس عن ادعاءات صفيقة من هذا النوع، وبلدهم أقدم معامل صهر البشر في التاريخ الإنساني، وقد خلق ذلك ثراء عظيما في الشخصية المصرية، يسكن المدن، كما أعماق الريف الذي جاء منه محمد صلاح، لا يملك سوى تعليمه المتوسط المتاح على علاته، وسوى تاريخ من مباريات «الكرة الشراب» في أزقة قريته المتواضعة، وهدته أقداره إلى فريق أنشأته شركة «المقاولون العرب»، وهي الأخرى صرح مصري عريق، لمع نجمه في عملية بناء السد العالي، ولم يكن فريق «المقاولون» من المنافسين في العادة على القمة الكروية المصرية، فهو ليس كالأهلي ولا الزمالك، اللذين يتشاركان أغلب جمهور الكرة المصرية تاريخيا، ولديهم فوائض شهرة ومال كافية لاجتذاب الموهوبين، ولم يدخل محمد صلاح باب الزمالك ولا باب الأهلي نادي القرن العشرين، الذي دخله الخطيب وأبو تريكة، لكنه دخل الباب الأوسع بامتياز، وقادته حظوظه السعيدة إلى الاحتراف الخارجي في أندية أوروبا، وصولا إلى التألق غير المسبوق في نادي «ليفربول» الإنكليزى، وحيث تحول إلى أسطورة، وإلى نجم لا يبارى على مستطيل الكرة الأخضر، كما في قلوب البريطانيين قبل المصريين والعرب، وتحولت «سجدته» الشهيرة عقب كل هدف يحرزه إلى «أيقونة»، وإلى مثال فريد نافذ إلى وجدان غير المسلمين في الدنيا كلها، وإلى علامة حضارية مسجلة باسمه، تفتح مغاليق العقول، وتبرز تفوق وعظمة وثراء إنسانية الإسلام المفترى عليه.
وقد لا نقول جديدا، إذا كررنا ذكر حقيقة لا يمارى فيها أحد، هي أن محمد صلاح الأكثر شعبية بين المصريين الآن، وعند العرب جميعا، وبشخصه السحري الجذاب، وليس فقط بامتيازه الخارق كلاعب كرة قدم، وهو ما يفسر سرعة اكتساح محمد صلاح لعناد بيروقراطي غشوم من اتحاد كرة القدم المصري، وبمجرد ظهوره في فيديو قصير لمدة دقيقتين، شرح فيه حقيقة مطالبه الاحترافية، وكونها لصالح كل لاعبي المنتخب المصري، من نوع توفير الحراسة ومنع التطفل وإهدار الوقت، ومنح اللاعبين فرصة التركيز في التدريب والاستعداد، وتلك أبسط مقتضيات وقواعد العمل، التى ماطل فيها، بل وسفهها بارونات اتحاد الكرة، وكان انحياز الناس لمحمد صلاح، وتصديقهم الجارف على كلامه، هو ما جعل اتحاد الكرة يزحف على بطنه، وينفذ كل مطالب «مو» صلاح، بل ويغالي في التنفيذ إلى ما لم يطلبه محمد صلاح أصلا، وكانت تلك المعركة التي حسم فيها الفوز لمحمد صلاح بالضربة القاضية، ما يؤكد قوة شعبية اللاعب النحيل القصير، المعجون بطيبة وفطرية وذكاء المصريين، الصادق في غير تقعر ولا التواء، المكتسح لفساد وعجز بيروقراطي، يقتل حيوية المصريين، وكأن صلاح بما فعل في نزاع خاطف، كان يبشر المصريين بإمكانية النصر، وتفكيك القيود التي تشل حركتهم، وتمنع انطلاق طاقاتهم الحبيسة، وهذه واحدة من روابط «العروة الوثقى» النفسية عند المصريين تجاه محمد صلاح، بعد أن تحول الأخير من لاعب إلى رمز كودي، وإلى قدوة تنير الطريق لشباب مصر الحقيقي الموهوب، وليس «شباب البلاستيك» المفروضين قسرا على الشاشات وفي المؤتمرات الرسمية.
نعم، محمد صلاح ليس سلطة ولا كرباجا، ولا إنجازا يملك أحد أن يدعيه لنفسه، بل صنع نفسه بنفسه، وبعبقريته الفطرية لا بالمصادفة، وببساطته الأخاذة لا بالاصطناع ولا بالتزويق، وبدأب الجهد والتعب لا بالمظهرية الكذابة، وبفنية وجمال وسلاسة لعبه الاحترافي، وبإيمانه الديني المصري البليغ، الخالي من كل صور التنطع والغلو، فهو مثال للمصري الحقيقي، حين تزيح عنه أكوام التراب وأدران اللحظة، وتجلو معدنه أصيلا صافيا، وتصله بإيقاع عصره وضرورات العيش فيه، وقتها يصل إلى المكانة التي يستحقها تحت شمس الله، وتستحقها مصر لها المجد في العالمين، وهكذا فعل محمد صلاح، ونال في الغربة، ما يحلم به أقرانه من المصريين، الذين يعيشون الغربة وهم في ديارهم الأصلية، ويحجزهم عن بلوغ النجاح ألف قيد وقيد، وتدفن مواهبهم تحت ركام المظالم، ويكبت طموحهم، وتختنق أنفاسهم بتلوث السحب السوداء، ولا يكادون يرون لون السماء من فرط ثقل وظلمة «طائر الرخ».
نعم ثانية، محمد صلاح قطعة من قلب مصر، والمصريون إذا أحبوا فلا راد لعواطفهم، ولا حدود للولع، فما بالك إذا أحبوا أنفسهم في شخص محمد صلاح هذه المرة، فهم يرون فيه حقيقة المصري حين يعاد اكتشافه، وتنزاح العوائق من طريقه، وليس كالمصريين شعبا يحتاج إلى استعادة الثقة بنفسه، وبملكاته ومواهبه الكامنة المطمورة، وكان المصريون هم أول الدنيا، وأول الحضارة والترقي والتمدن، وهم الآن ليسوا كذلك بالتأكيد، وإن كان شعورهم الداخلي ينبئهم بما يحلمون، وقد وجدوا في محمد صلاح نافذة وإشارة إلى المجد الذي يستحقون، خصوصا أن لعبة كرة القدم لها الشعبية الأولى عالميا، وفي مصر أكثر، ربما لأنها مباراة تحكمها قواعد، والمشاهد له عين الرقيب الحسيب على كل ما يجري، وله فرصة تقييم اللاعبين والحكام ونجيل الملاعب، وبلا فروق تكاد تذكر في الحقوق بين المتعلم ونصف المتعلم وحتى الجاهل، ونصف محنة مصر الحالية، في غياب القواعد وتواري الشفافية وقهر العدالة وانعدام تكافؤ الفرص، وهو ما لا يتوافر نقيضه بمصر سوى في ملاعب الكرة، وفي صراع الأقدام بعد حصار الأقلام، مما يجعل محمد صلاح، بحكم المهنة، عنوانا مفضلا لمحبة سواد المصريين، وملكا متوجا على عرش القلوب، وبشغف الانعتاق من ضيق الحال إلى سعة الحلم، فالمصريون يحلمون بالعدالة والحرية والكرامة والعلم والتصنيع، ووصل ما انقطع مع سيرة النهوض الذي كان، ومحمد صلاح بأصوله الريفية، وبتواضعه الجم وتفوقه الباهر، يقدم دليلا حيا للمصريين على إمكانية بلوغ الأحلام، وصناعة نهوض جديد يحتاج إلى معجزة خلق.
نعم ثالثة وليست أخيرة، محمد صلاح يبدو كصانع سعادة المصريين الوحيد الآن، وبغير تكلف ولا افتعال، ربما لأنه يذكرهم بما يصح أن يكونوا عليه، فالقصة أوسع في مغزاها من ملاعب كرة القدم، ومن جوائز عالمية، تتقاطر بالجملة إلى لاعب مصري، يبدو كواحد من جملة المئة مليون مصري، يعيد إليهم عظيم الثقة بقدراتهم، وتوحي سيرته الملهمة بالطريق إلى «صلاح» مصر كبلد، وليس مجرد «صلاح» استثنائي في عوالم الساحرة المستديرة.
* القدس العربي
اقراء أيضاً
يوم نكبة «إسرائيل»
«إسرائيل» المارقة وأمريكا المنبوذة
مأزق أمريكا الإيراني