قال أستاذي الحكيم: الوقع أننا في مربع الضرر، وبطبيعة الحال، كل الخيارات غير مرضية، وعلينا أن نوازن بين الضرر، والأضرّ منه.
صدق الأستاذ، فالأخذ بالأسباب، والاستمرار بالسعي؛ لتحاشي الركود والسكون هو مفتاح الحل؛ ولكن.. إن كان جوهر ذلك تغليب الحق العام، وجعله فوق كل الاعتبارات، فهذا هو عين الحكمة والصواب، ولو كنّا في قعر هاوية، وليس في مربع الضرر فحسب.
عاتب الله جل وعلا كليمه موسى عليه السلام بقوله: "وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَا مُوسَىَ * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَىَ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ * قَالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلّهُمُ السّامِرِيّ".
لم يكن حرص كليم الله على القرب من ربه، وإرضائه، أولى عند الله من ترك فراغ بين الناس، فيضلوا الطريق، فكل المجتمعات فيها من يمتلك مواهب وطاقات فارغة من الخير والقيم، باستطاعته أن يشد انتباههم، ويغير وجهتهم التي كانوا عليها، ويرفع من قيمة المحسوسات والإنجازات المادية، على حساب مبادئهم وثوابتهم النبيلة، التي يعول عليها كأساس راسخ ومتين لبناء المجتمع.
وفي حالنا اليوم، نجد أن الاندفاع والعاطفة قد تغلبنا، وقد تجعل الفشل هو النتيجة الحتمية، وخاصةً إن تأثر البعض بالشعارات الدينية التي نسمعها من هنا وهناك، واستغلال العقيدة الاسلامية الراسخة لشعوب المنطقة وتوظيفها في صراعات هي بالأساس ذات أبعاد سياسية واقتصادية صرفة، وبالتالي تحيد وجهة الناس، وتختل أولوياتهم. فالكثير منا لا يعي أهمية القيادة القوية والمتماسكة، ويفضلون البقاء بفراغ وفوضى؛ حرصاً على دخول الجنة، وقد يصل الأمر بنا إلى الرضى بأي بديل، وإن كان البديل جسداً له خوار مثل قوم موسى.
وفي المقابل عاتب موسى أخاه هارون عليهما السلام بالقول: "قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلَّا تَتَّبِعَنِ ? أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ? إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي"
من قال "يا ابن ام ..." و "خشيت" لم يكن سلبي ولا ضعيف، وإنما كان حكيم، لديه بُعد نظر، وصاحب قرار سديد، فترك فُسحة للضرر المتمثل بفساد العقيدة، حتى يتحاشى الضرر الأكبر وهو الانقسام الرأسي للمجتمع؛ بسبب صراع الأفكار العقائدية مع السامري، فإذا ما عادت القيادة الملهمة والجامعة التي غابت لبعض الوقت وجدت بناء مجتمعي تقوده وتصوب مساره.
فبناء الدولة واستقرارها، هي أولى الأولويات، فلا يقوم دين، ولا تُحفظ نفس وعرض وعقل ومال إلا في ظل دولة ومجتمع متماسك، ولنا في نبي الأُمة صلى الله عليه وسلم أسوة، فقد أسس مجتمع المدينة، وثبّت ميثاق مكتوب بين أطيافه المختلفة؛ للحفاظ على ذلك المجتمع، وعلى منتسبيه، أي كان دينهم ونسبهم، ولم يرفع سيف على أحد من أفراده، ولم يُنفي أحد بحجة عقيدته ودينه؛ ولكن كانت الحُجة الأولى والأخيرة في عقوبة أي فئة من الناس، هي أمن المدينة، واستقرار أركانها.
ومن المشهدين، في قصة قوم موسى، نجد أن فن الممكن في اليمن يجب أن يفضي إلى قيادة قوية ومؤهلة، ومجتمع موحد ومتماسك، وفق قواعد عامة ومشتركة، ومن ثم تأتي الاعتبارات والتفاصيل الأخرى، وفي كل الأحوال، علينا أن لا نقول أن سلوكنا السياسي في اليمن، وقراراتنا في الوضع الراهن هي حكمة، وفصل الخطاب؛ إلا بعد أن نرى النتائج ونعيشها ونضمن بقاءها.
اقراء أيضاً
التوافق بعد 26 سبتمبر حكمة أم نكبة؟!
رقصة "كيكي"
أردوغان علماني.. ولكن؟!