ذكرتني، بقصة رُويت عن الإمام يحيى، عندما وصله خبر عدم رضى الشعب عليه، فأتى بفكرة "تقطرنوا".
فما إن أصبح الصبح، حتى بدت وجوه غالبية الناس مخضبة بخطوط سوداء، رائحتها كريهة، ولم يبقَ إلا عدد قليل منهم، لم يصدقوا خرافة الإمام تلك..
ما كانت خرافة "تقطرنوا" استخفاف من الإمام بالشعب فقط؛ بل كانت وسيلة لقياس الرأي العام، وحينها اتضح أن مستوى وعي المجتمع لا يكفي لإحداث تغيير فعلي، وبالتالي ارتاح الإمام وحاشيته لتلك النتيجة، إلا أن ما كان يخشاه الإمام أصبح واقعاً بعد فترة وجيزة على يد قِلة لم يأبه لهم..
وظل العدد الكبير من الذين تقطرنوا في عهده بنفس منطق التفكير ينتظرون منادياً جديداً يثير مشاعرهم ويداعب عواطفهم وهم على استعداد كامل للتنفيذ وظلوا تلك الحجر العثرة إلى يومنا هذا.
رقصة "كيكي" أظهرت مستوى وعي شعوب المنطقة وخاصة الشريحة التي تمثل أغلبية التركيبة السكانية وهم الشباب.. واتضحت التباينات في اهتماماتهم وميولهم بالصوت والصورة.
وهذا بدوره يشير أن التقارير والمعلومات التي ترفعها مؤسسات قياس الرأي وتصريحات النخب السياسية والمثقفة للإعلام وفي المحافل الدولية التي تصور للعالم أن أغلبية الشعوب فاض بها الكيل وأنها غير راضية، قد لا تعكس الواقع الفعلي وذلك لعدم وجود دليل يثبتها ويؤيد ما ترمي إليه؛ بل على العكس تماماً والدليل هو رودود الفعل الجماهيرية لرقصة "كيكي".
خرجت أعداد كبيرة تطبق تحدي رقصة "كيكي" مثل المجانين في الشوارع وتنشر الصور لتثبت اجتياز التحدي بصورة مضحكة وتثير السخرية فعكست جانباً من الواقع ومدى الفراغ الثقافي الذي تعيشة أغلبية مجتمعاتنا.
وفي المقابل ظهر الموروث الثقافي والقيمي الذي يمثل عمود فقري لشعوب المنطقة وتهديد كبير للغرب، في ردود فعل عدد من الشباب الواعي تنتقد التماهي والذوبان مع رقصة "كيكي" على حساباتهم في السوشل ميديا، وهذا جانب مشرق يثبت أن التغيير لا يشترط حشود شعبية كبيرة؛ بل يكفي للتغيير بصيرة ورؤية طموحة وعزيمة قوية ورغبة صادقة وحركة دؤوبة حتى لو كانوا فئة قليلة من الناس باستطاعتهم أن يغيروا وجه الأرض.
إلا أن الحشود الجماهيرية والإعداد الكبيرة من الناس تبقى بانتظار من يأتي لها بما ينفعها ويقدر إنسانيتها ويملأ الفراغ التي تعاني منه وهي لا تشعر.
قد نقول لا عبرة في هذه الحشود وليست شرط في التغيير وخاصةً في مجتمعات كرست فيها أنظمة الحكم الخنوع والسطحية لدرجة أن أي موجة دعائية تشكل مزاجها ما بين ليلة وضحاها؛ إلا أن هذا تصور خاطئ وينبغي أن تكون مصالح هذه الأغلبية من البشر هي الدافع الأول لأي تغيير كما أن الفراغ الذي تعاني منه إن تم تجاهله لن يملؤه إلا عفن ثقافي تنتجه المؤسسات الإعلامية في الغرب بغرض الاستثمار وجني الأموال على مدار الساعة.
وتجاهل مثل هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر التي تعمل ضجيج في أوساط مجتمعاتنا في ظرف ساعات قليلة، هو تجاهل للحقيقة والعيش في زمن آخر أو في كوكب غير الأرض، والأحرى أن تكون حملة #رقصة_كيكي وغيرها من الحملات الإعلامية والتطبيقات الرقمية باعث لابتكار وسائل وأساليب جديدة للتأثير والتوعية والتربية والتعليم يُراعي فيها أدق التفاصيل.
اقراء أيضاً
التوافق بعد 26 سبتمبر حكمة أم نكبة؟!
الواقع اليمني وفن المُمْكن
أردوغان علماني.. ولكن؟!