تملك إسرائيل أن تقيم ما شاءت من احتفالات في الذكرى السبعين لما تسميه يوم استقلالها، ونسميه نحن العرب بالنكبة الفلسطينية، وقبل أسبوع من حلول الموعد في 15 مايو، حاولت إسرائيل أن توحى بنصر جديد، وأقامت سفارتها حفل عشاء في فندق قاهرى مطل على النيل، دعت إليه مئات من الشخصيات المصرية، لكن المقاطعة جاءت شبه جماعية، ولم يحضر الحفل سوى حفنة من سواقط القيد وسقط المتاع.
وقد لا تخفي رمزية الحفل المريب، فالفندق الذي اختير للحفل مجاور تماما لمبنى الجامعة العربية، ومطل على ميدان التحرير، الذي شهد وقائع الثورة الشعبية المصرية، وعلى بعد خطوات من تمثال الفريق عبد المنعم رياض سيد شهداء العسكرية المصرية، والفندق نفسه شهد مؤتمرات قمم عربية، زمن القائد جمال عبد الناصر، قبل أن تتحول إدارته أخيرا إلى جهة أجنبية، وقبل أن يتغير اسمه، ويقبل استضافة حفل السفارة الإسرائيلية.
في محاولة استفزازية بائسة لتحطيم كل المعاني الرمزية، وتصوير الأمر كما لو كان اختراقا لجدار المقاطعة المصرية الوطنية، وهو ما كان مصيره الفشل المدوي، فالشعوب لها اختياراتها بصرف النظر عن قرارات الحكومات، والشعب المصري أكثر الشعوب العربية عداء بإطلاق لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، ومصر صاحبة أكبر نصيب من الشهداء في الحروب مع إسرائيل، وأربعون سنة من سريان ما يسمى معاهدة السلام، لم تطفئ جذوة الوطنية المصرية، وارتباطها العضوي بقضية فلسطين، ولا يزال التطبيع مع إسرائيل في مصر جريمة سالبة للشرف، وعارا يلحق بكل من يقترفه.
والحادثة في القاهرة ليست جانبية، إنما هي في صلب الصراع المتصل لسبعين سنة إلى الآن، وكانت الضحية فيه هي فلسطين، التي صارت محتلة بكاملها، من زمن نكبة 1948، ثم هزيمة 1967 التي سموها بالنكسة، وبدت معها إسرائيل كأنها انتصرت إلى الأبد، وحققت حلم الصهيونية بإقامة كيانها على أنقاض فلسطين، ثم حصلت على اعتراف من عرب بشرعية ـ مغتصبة ـ لوجودها في معاهدات سلام رسمية.
وزادت قوتها أضعافا باندماج استراتيجي مع المخططات الأمريكية، وامتلاك ترسانة هائلة من القنابل الذرية، والوصول لأرقى مستوى تكنولوجي في صناعة السلاح وحيازته، ثم اختراقاتها الأخيرة في جلب حلفاء شبه رسميين من دول الخليج الغنية، واصطفاف هؤلاء وراء إسرائيل في حملة العقوبات والحروب الأمريكية ضد إيران، وهو ما قد يوحى بانطباع خاطئ، مفاده أن إسرائيل ـ بعد سبعين سنة ـ صارت الرقم الأصعب والعنصر القائد في المنطقة، وأنها تستبدل معنى «الجامعة العبرية» بالمعنى القديم المتآكل للجامعة العربية.
وقد لا يمارى أحد في ضعف وهوان وهزال الموقف العربي الرسمي، وفي انهيارات دموية عاصفة لحقت بالمشهد العربي، وفي تحطم دول عربية كبرى في المشرق العربي بالذات، وفي توالي نكبات بالعراق وسوريا، أخطر من نكبة فلسطين ذاتها، وكل ذلك صحيح ومتصل إلى مدى يعلمه الله، لكنه لا يعني ـ بالضرورة ـ دعما تلقائيا لقوة إسرائيل، ولا مضاعفة لعملقتها الموهومة، فقد كف العرب الرسميون عن المشاركة في حروب مع إسرائيل من عقود، وكانت حرب أكتوبر 1973 خاتمة لحروب النظم مع إسرائيل، ورغم خروج النظم من ساحة الصدام، فلم تزد إسرائيل أمنا، ولا زادت مناعة، بل تضاعفت محنة عجزها، رغم قوتها الظاهرة.
فلم تنتصر إسرائيل في حرب واحدة بعد 1967، وتوالت هزائمها في حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، ثم في حرب أكتوبر 1973، وكان المآل النهائى لحروبها التالية عجزا مقيما، وقد تكون نجحت في غارات خاطفة شنتها على المفاعل النووي العراقي ثم على المفاعل النووي السوري، لكنها فشلت في تحقيق أي نصر في حروبها مع حركات المقاومة العربية الجديدة، وأرغمت تحت حد السلاح على الجلاء المذل من الجنوب اللبناني، ثم أرغمت على الجلاء عن غزة بفضل سلاح الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
ثم عجزت عن تحقيق أي نصر في أربع حروب تالية، هي حرب 2006 مع «حزب الله» في لبنان، وحروب 2009 و2012 و2014 مع «حركة حماس» في غزة، وما من مصير آخر ينتظرها في حروب تعد لها الآن على جبهة المشرق العربي، بعد انسحاب واشنطن من صفقة الاتفاق النووي مع إيران، وتصاعد السجال الحربي بين إسرائيل وإيران على جبهة سوريا، وانفتاح السبل لنشوء قوة تشبه حزب الله في سوريا، تعمل في تكامل حربي وثيق مع حزب الله في لبنان، ولديها النفس الكافي لإدارة مواجهات طويلة الأمد مع إسرائيل.
لا تحسمها غارة مفاجئة ولا حرب خاطفة، تعودت عليها القوة العسكرية الإسرائيلية في طلب النصر السريع، فقد دار الزمان دورته، ودخلنا زمن الحروب الممتدة لوقت طويل، التي لا تستطيع إسرائيل تحقيق النصر فيها أبدا، ولأسباب تتصل بتوازن جديد تخلق بين القصف الجوي والردع الصاروخي، وقوة احتمال الأطراف المحاربة لإسرائيل، ومقدرتها الإيمانية على تقديم التضحيات بلا نهاية، فيما تعجز إسرائيل عن احتمال التضحية، في وقت صارت فيه تجمعاتها السكانية في قلب مرمى النيران الصاروخية.
وفي قلب دائرة الصراع التاريخى المتصل، أي في فلسطين المحتلة ذاتها، لا تبدو الكفة راجحة أبدا لصالح كيان الاغتصاب الإسرائيلي، ولا تبدو إسرائيل قادرة على فرض سلام يريحها، وسوف تسقط بالبداهة تسوية ما تسمى «صفقة القرن»، وبدون قيمة فعلية، تتعدى المظاهر الاحتفالية الصاخبة لقرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، حتى لو تكاثرت أسماء الدول التي تحذو حذو أمريكا، فالحقائق تبقى هي الحقائق، وأم الحقائق أن إسرائيل مشروع استعماري استيطاني إحلالي، وككل كيان استيطاني في التاريخ.
فلا بد من توفير وجلب الموارد البشرية اللازمة، وإحلالها محل السكان الأصليين، وقد فعلت إسرائيل وداعموها الغربيون كل ما استطاعوا، وجرى طرد قرابة المليون فلسطيني من أرضهم في نكبة 1948، وإجبار مئات الآلاف من الفلسطينيين الآخرين على النزوح، واعتصار كل تجمعات اليهود في أربع جهات الدنيا، واستخدام كل الإغراءات والوعود لجلبهم إلى فلسطين، لكن النتيجة الكلية بعد سبعين سنة على النكبة، جاءت صادمة ومخيبة تماما لآمال الصهيونية ودعاتها وداعميها الغربيين، فقد نفدت مخازن اليهود المستعدين للذهاب إلى الاستيطان في فلسطين، وزادت أرقام الهجرة العكسية ليهود إسرائيل من فلسطين المحتلة، فقد تفرض القوة واقعا موقوتا بالقهر.
لكن جوهر مشروع الاستيطان الإسرائيلي دخل في أزمة مستحكمة، فهم يريدون إلغاء اسم فلسطين كليا، وإحلال كيان «يهودي» خالص محل الفلسطينيين، وقد صار ذلك مستحيلا أكثر فأكثر، فقد ولدت فلسطين شعبا فلسطينيا جديدا، حل محل الشعب المطرود، وكان توسع إسرائيل بعدوان 1967 نقمة عليها لا نعمة لها، فقد تغيرت الصورة السكانية جذريا، وصار عدد الفلسطينيين الآن أكبر من عدد اليهود في فلسطين المحتلة بكاملها، أي أن المشروع الاستيطاني الصهيوني لم ينجح في التخلص من السكان الأصليين، بل عادت الغلبة السكانية للفلسطينيين على الأرض المقدسة، وعلى نحو قابل للاطراد في العقود القليلة المقبلة، وبفروق ظاهرة في معدلات الإنجاب لصالح الفلسطينيين، وبصورة تحول الفلسطينيين إلى أغلبية سكانية ساحقة فوق أرضهم عند منتصف القرن الجاري.
حتى لو لم يعد لاجئ فلسطيني واحد من خارج فلسطين، وهو ما يملأ قلب إسرائيل برعب غريزي مكتوم، فكل مشروع استيطاني يفشل حتما لو لم ينجح في التخلص من السكان الأصليين، وعلى نحو ما حدث في تجارب الجزائر وجنوب إفريقيا، إذ تفرض الغالبية السكانية الأصلية كلمتها في النهاية، خاصة مع التطور الظاهر في إبداع سبل المقاومة الفلسطينية، والتحول المطرد إلى صنوف المقاومة الشعبية السلمية الواسعة، والالتحام اليومى المتزايد بين «عرب 1948» والفلسطينيين في غزة والقدس والضفة الغربية، ورفض إسرائيل للجلاء عن القدس وأغلب الضفة الغربية، فالضفة بالذات (يهودا والسامرة بزعمهم) هى قلب الأسطورة الصهيونية المتمسحة بأساطيرالتوراة.
ومحصلة ذلك كله، أن إسرائيل تحفر قبرها، ربما بسلاحها، فقد استحكمت العقدة التاريخية، ولم يعد بوسع إسرائيل رفد وجودها العنصري الاستعماري الاستيطاني بزاد بشرى مؤثر، بينما يتدفق الخزان البشري الفلسطيني، ويثبت على أرضه، ويبدع في فنون المقاومة، ويكسب كل يوم معارك جديدة في ضمائر العالم الحية، رغم التدهور الحاد في بنية السلطات الرسمية الفلسطينية، وعلى نحو يقود بطبعه إلى مراحل جديدة، تصبح فيها القضية بيد الشعب الفلسطيني أساسا، وتسقط قيود التحكم في حركته، وتنقشع أوهام «أوسلو» وأخواتها وأزلامها، وتنشأ أجيال جديدة عفية متعلمة واعية.
فالشعب الفلسطيني أكثر الشعوب العربية تعليما، وقد تعرض لمحنة فريدة، خلقته خلقا جديدا، وهذا أكثر ما تخشاه إسرائيل، لكنها لا تملك الفرصة لكبحه، فالقوة العسكرية الزائدة لا تفيد في مواجهة حركة الناس، ولا تخيف طلائع شعب مستعد للتضحية إلى ما لانهاية، وليس لديه شيء يخسره سوى قيوده، فقد انتهى موضوعيا زمن نكبة الفلسطينيين، وتعلموا درس الثبات على الأرض مهما ضاقت، وهو ما يبشر بزمن جديد، تحل فيه «نكبة إسرائيل» محل نكبة الفلسطينيين، ويذهب فيه المطبعون مع العدو إلى مزابل التاريخ.
*القدس العربي
اقراء أيضاً
يوم نكبة «إسرائيل»
«إسرائيل» المارقة وأمريكا المنبوذة
مأزق أمريكا الإيراني