في كل الحروب ينتظر المحارب البهجة من الخطوط الخلفية له بابتسامة زوجة تشجعه؛ طفل يلوح له؛ دعوة أُمّ تظلل له طريقه وتحميه من المخاطر؛ وربما قادة يشدون من أزره في زيارات دورية للجبهات؛ أو ساسة يصدرون قرارات تهز قلوب العدو، وتجعلهم يعضون على النواجذ خيفة وندماً...؛
وأضعف الإيمان: راتب يصرف في موعده، لن يكون بالأمر السيء. لكن حتى هذا الأمر قد يكون مختلفاً في ربوع السعيدة!!..
لم يكن تقمصي لدور الصحفي هو سبب سعادتي وأنا أقابل ذلك المقاتل بعمره الذي تجاوز منتصفه. فلم تكن الأخبار هي غايتي المنشودة، بقدر ما أثارتني ابتسامة الوليد المتنزهة في حدقاته، بعد رحلة عودة من منطقة "حيفان"- تعز، مسقط رأسه البعيدة كل البعد عن سماء صنعاء في تلك اللحظة.
سألته: ألست خائفا من عودتك، والقبض عليك من قبل ميليشيا الحوثي؟!
أجاب بضحكة مجلجلة: لولا الأوامر لكنت قبضت عليهم. لم أجد في حياتي من هم أجبن منهم إلا "العصيدة". يتخفون خلف الألغام، ومتارسهم القرى المأهولة بالسكان، لا يبقيهم في معاقلهم سوى قلة سلاحنا وانعدام الموارد..
وبداء يشرح لي حال الجبهات.. لم أتمكن من إمساك قلمي واللّحَاق به، فاكتفيت بالتحليق معه في ليلة خلف المتارس، وما أجملها من ليلة!! ..
عادوا بعد نهار عنيد، لم يقبل بالمغادرة وهو يتابع، ببلادة، معركة شرسة استمرت من منتصفه حتى انقضائه، تسندهم أرواحهم، ويسابقهم جوعهم لمطبخ المعسكر، الذي اكتشفوا تباطؤه في عمله وعدم انجازه لوجبة طعامهم!!..
لم يَسْلَمْ الطباخين من نقد المقاتلين اللاذع- (نقد على الطريقة التعزية)- التي لا تخفى على أحد. استغلوا وقت إنضاج الطعام ليأخذوا قسطا من النوم. لينتبهوا بعد ساعة منه بمفاجأة جديدة: لم تنتهي معاركهم لذلك اليوم بعد، تبقت إحدى جولاته مع أحد رفاقهم، والذي كان للأسف أشدهم جوعا، ولم يستسلم كغيره للنوم وأكل دجاجة كاملة لرأسه...!!
لم يهتم ذلك المقاتل بـ"العلقة" التي حصل عليها من رفاقه، وجلس مستمتعاً بشرب "قلص الشاهي"، بينما زملائه في حيرة من البرود الذي أصابه!! هل كان ضربهم له عنيفاً لدرجة فقدان عقله؟! حتى خرجت أكياس القات المخبأة لهم، والتي أحضرها سكان القرية المجاورة هدية للمقاتلين ..
كان يتحدث بحماس، لم أحاول مقاطعته بأسئلتي، لن يهتم مثلهم بمعرفة ما يدور في كواليس السياسة فعلا؟! لن يبالوا بالتحالفات التي تعقد أو المعاهدات السرية التي تُوَقَع تحت الطاولة؛ هذه الأرض لهم، ولن يمسها أي غريب ما داموا أحياء عليها، هدفٌ لن يفهم مغزاه الساسة ولو بعد ألف عام!! ..
عاد المقاتل لمواصلة سرد حكايته، وقد تجمع أطفاله حوله: "للقات في تلك الليالي طعمٌ خاص لا يُنسى، وقد عدنا للمهاجل والأغاني التي ضاعت حروفها من ذاكرة الصبا لوقت طويل .. وبدأ يهجل:
ليل ابوا روح هاودان الليل ..
خبرتي سبعة وأربعه واثنين ..
خبرتي سبعة داعسين الليل ..
عيننا وا رب وا معين الليل..
ليل وا آوي بالهياج الليل..
كنت أستمع لمهجل المقاتل مبتسمة، وأنا اتخيل رقصة "الشرح الزبيري"، كما أسماها وهي تتردد من حناجرهم:
الا ودنا الا وليل دانا يا حيا ..
منين اجي لك ويا لخضر منين ..
(...)
ليس الموت زائر في أغاني الحرب الا لمن استدعاه. لا يودع المقاتل الحب حين يحمل سلاحه، بل يصيح به ليكون رفيقه وحافز له لحياة واعدة في الغد ..
قام الاطفال ليرقصوا مع صوت والدهم الغائب منذ شهور، فرفع عقيرته بالغناء وهو يصفق، وقد شعرت بأن إصابته وحدها هي من منعته من الوقوف والدوران مع الراقصين في مساحة الديوان الضيقة...
برغم ذلك الجو البهيج؛ إلا أن زجاج عينيّ المقاتل التمعتا للحظة ببريق مختلف، ما الذي عساه تذكر!! أحد رفاقه الذين فارقوه!! أم أن وجعُ جرحه ضربه بسوطه!!
ربما لأني فقط كالآخرين، البعيدين عن المتارس، لم يعد بإمكاننا الشعور بالفرح، ويلاحقنا الذنب معاقباً لنا حين نحاول النسيان؟!..
تركت المقاتل بعد دعوة له بالشفاء والنصر، ورفعت رأسي للسماء مستجدية عطفها على مقاتلي هذه الأرض الشرفاء، قبل أن يلاحقني صوته في أذني:
وا غريب الدور والديار الليل ..
وا غريب الدور اين تآوي الليل ..
بندقاني راح بثلابه الليل..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني