ليسَ بالضرورة أن نُحَوِّل َفائض الحنين والأحزان الى دموع، فغالبا ما حَوّلَ أجدادنا أحزانهم الى ألحان، واختاروا بملئ إرادتهم أن يغنوها.. يحتاج الإنسان أن يجعل من حياتهِ مكاناً ملائماً للعيش.
لم تكن الغربة خيار المرفّهيّن من أبناءاليمن. ما عانته أرضهم من مجاعات وأوبئة- عدى الحروب التي لم تتوقف- جعلت من الغربة خيار المتمسكين ببقايا حياة، حملوها معهم في بداية دعساتهم المغادرة لليمن، كما وضحت قصيدة "البالة" المغناة للشاعر الكبير مطهر الارياني، على لسان البطل المهاجر فيها..
البالة، والليلة البالة.. والليلة البال،،
بال النسمة السارية،،
البالة، هبت من الشرق فيها النسمة الكاذية،،
فيها شذى البن، فيها النسمة الحالية،،
عن ذكريات الصبا في أرضنا الغالية..
يبدو أن بطل "البالة"، ناجي أو مسعد، أو قاسم، أيً كان اسمه، لم يغادر منفرداً بذكرياته وحسب.. على الأغلب أن بعض من نسمات بلادهِ ورائحتها تمكنت هي الأخرى من الفرار وتحدي الحدود. هل كان الأمر سهلاً عليهم، أم أن الرفقة جعلتهم أكثر تماسكاً، وخففت عنهم بعض من أعباء الرحلة؟ لا أحد يدري، إلا أن الرفاق مضوا وتجاوزا الأيام.. لا شيء يذكرهم بالبعد والهجر سوى ليالي أعياد، كانت ربما فرحتهم الوحيدة. لا تغّيّر الأعياد من الواقع شيئا، إلا أننا يمكننا اعتبارها وقت مستقطع بين هَمٍّ وهَمّ، وحزنٍ وحزن آخر..
البالة، والليلة العيد، وأنا من بلادي وحيد،،
مافي فؤادي لطوفان الحزن من مزيد،،
البالة، قلبي بوادي بناء وأبين، ووادي زبيد،،
البالة، هايم وجسمي هنا في الغربة القاسية..
يبدأ بطل "البالة" في سرد ملحمته بطرح أسباب هجرته ومغادرته بلاده، ربما ليدرأ عنه شبهة التخلي والهجر المتعمد، حتى لا تُطرَح عليه عباراتٍ مؤنبة، على شاكلة: "لعلك تسرعت، أو بالغت حين اخترت الغربة..!!"..
البالة، خرجت من بلادي في زمان الفناء،،
البالة، أيام ما قالوا موسم الطاعون، قالوا جنا،،
البالة، وماتوا اهلي، ومن حظي النكد عشت أنا،،
عشت ازرع الأرض، احصد روحي الثاوية..
لم يفر بطل الملحمة الغنائية من الجوع كما اعتقدنا. وكما يبدو أن الأوبئة لا تترك مجالاً لنجاة أحد، تأخذ معها بعض ممن تصيبه، وتحتال لتترك البقية فارغين، إلا من ألم الفقد والحنين. سيكون الاغتراب في هذه الحال أخف وطاةً من عبثية ضرب معولك الوحيد في أرض دَفَنْتَ فيها للتو بعض منك..
.. ذكرت اخي، كان تاجر أين ما جاء فرش،،
جو عسكر الجن، شلوا ما معه من بقش،،
بكر غبش، أين رايح؟ قال أرض الحبش،،
وسار، واليوم قالوا حالته ناهية..
لم يكن بطلنا هو المهاجر الأول، فقد سبقه أخاه من قبل، بعد أن عانى قبله، إلا أن الاوبئة، أو الجوع، كانوا أبرياء هذه المرة، فلم يكن يجوز لليمني أن يحمل الطموح- أي طموح- فقد ولد ليدفع الجبايات منكس الرأس، وليموت بذات الوضعية.. هكذا قالت الإمامة، ليرفض أخاه تلك القاعدة وينفضها عنه للبحث عن رزق، لا خمس فيه ولا جباية، وإن كان بعيداً عن أرضه.
لا ينبغي لنا لومه، فبعض الأرواح خُلِقَتْ حرة، ولا يمكنها التنفس في أرض حُرِّمت فيها الأحلام.
غادر الأخ الأكبر، ليلحق به أخاه الأصغر بعد أن أُصيب هو الآخر بطموح الحياة السوية.. يبدو أن الأحلام والطموحات معدية..
بكرت مثله مسافر، والظفر في البكر،،
وكان زادي مع اللقمة ريالين حجر،،
وابحرت في "ساعية" تحمل جنود البقر،،
والبُنّ للتاجر المحظوظ، والطاغية،،
شكيت لاخواني البلوه وطول السفر،،
فقالوا البحر، فقلت البحر واساعية..
أي آفة تلاحق اليمني؛ فالسفينة التي حملت بطلنا، كانت تحمل تجارة لطاغية البلاد، وإمامها المجيد!! البضاعة التي لابد وأنها مثقلة بعرق الشعب البائس، المنكوب به؛ هل حملت تلك "الساعية" بعض من جباية الإمام على أموال أخيه، أو الخمس الذي يقتطعه من كل محصول؟!
لعل بطلنا تجاهل طرح ذلك التساؤل للتأقلم مع إبحاره الأول:
بحثت عن شغل في "دكا"، ومينا "عصب"،،
وفي الطريق، والمداوي، وما وجدت الطلب،،
وعشت في البحر عام، وخمس عشر سنة،،
وفي مركب "جريك" حازق الكبتنه،،
وسود الفحم جلدي مثلما المدخنة،،
وطفت كم يا بلود أرضها قاصية..
بحث بطلنا طويلاً عن أخيه في موانىء الساحل الأفريقي المقابل لليمن، إلا أنه لم يجده، فترك نفسه للبحار؛ تقوده السفن ويقودها، وهو يصب الفحم وسط محركاتها، من ميناء الى آخر، ومن أرض الى أُخرى؛ هل اكتسب اللغات سريعاً، أم أن أوامر الكابتن الايطالي- "عصبي المزاج"- استعصت عليه بعض الوقت؟!..
من كان مثلي غريب الدار ماله مقال،،
فما عليه إن بكى، وأبكى الحجر والشجر،،
إبكي لك إبكي، وصب الدمع مثل المطر،،
ومن دمّ القلب خلي دمعتك جارية..
لماذا لم يحاول بطلنا الاستقرار في إحدى المدن التي زارها؟ كان بإمكانه ذلك، والاكتفاء بالدعاء لأخيه، فهو لن يكون الشخص الأول الذي فارقه، إلا في حال أنّ بحثه لم ينحصر على أخ، وصلة قربى، وكانت بغيته دائماً حاضرة في ذهنه، ولا يفصلها عنه سوى رحلة تعيده فيها البوصلة إلى أرضه.. الأرض التي لم ينساها ابداً، واستمر بالبكاء عليها، أو الغناء لها طيلة الرحلة:
البالة، غنيت في غربتي، يا الله لا غبت أنا،،
ومزّقَ الشوق روحي في لهيب الضنا،،
البالة، راجع أنا يا بلادي، يا ديار الهنا،،
البالة، يا جنتي، يا ملاذي، يا أمي الغالية..
تنتهي من سماع "البالة"، وأنت تمسح عينيك متسائلاً: هل عاد بطلنا الى دياره، أم أن روحه مازالت تبحر بين الامواج، تنتظر لحظة وصولها؟!
في حقيقة الأمر، ندرك جميعنا الاجابة، فكلنا ذاك الرّحّال منذ أبيات "البالة" الاولى؛ يمكننا سماع نشيجنا أو غنائنا، فجميعنا مهاجر، سواء اعترفنا بذلك، أم اكتفينا بالنسيان..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
غُربة ملك