لا أتذكر إصابتي بالملل من تكرار حكايات جدتي وسهراتنا الطويلة أثناء زياراتها النادرة لنا. استمر طلبي حتى وقت قريب لقصص (أم الصبيان) التي تختطف الرجال وتقودهم لحتفهم، (وبني كليب) الذي لا يبقي من أجساد ضحاياه سوى (الجمجمة والاضراس)..
كانت جرعات الرعب التي نستمدها من تلك الحكايات تزيد من حماستنا، برغم رعشة الخوف التي تسري في أجسادنا ونحن نترقب تحت البطانيات دعسات اقدامهم وانقضاض أنفاسهم الكريهة المتأهبة لأدنى حركة منا..
أحاول نقل تلك الحكايات لأطفال عائلتي لإخراجهم من أجواء الحرب، فلا أجد منهم الترقب المثير والتشويق الذي كان يملئنا...! لم يشغلهم أبدا البحث عن نهايتها، فقط الملل من يتسرب إلى عيونهم وأنا أشرع في سردها؛ يتقافزون من أمامي ما أن يجدوا فرصة ملائمة! لا أعرف إن كانت طريقتي في السرد هي من تجلب لهم الرتابة؟ أم أن أبطال حكاياتي لا يحملون القوة المناسبة التي تلبي طموحات هذه الفترة!!..
يبدو أن الناس في أيام السلم يبحثون عن إضفاء جو من الخيال إلى حياتهم؛ تنتهي تلك الحاجة مع اندلاع الحروب التي لا تكتفي بسرقة سنوات العمر واستبدال الشعر الأسود برايات الأبيض الباهت، بل تسطو على الخيال وتضع مكانه جرعات مضاعفة من خوف ووجع يفوق بمراحل عدة ما كانت تلك الحكايات تصنعه بنا..
أي قصة كانت تحكيها جدتي لم يكن بإمكانها التفوق على تلك العبارة التي افتتحت تقريرا أمميا، قبل بضعة أيام، يصف به حال بلادنا: "اليمن كدولة يكاد يكون قد ولى من الوجود"...!!
أي وجع تحمله، وأي قشعريرة يائسة تسري في الروح وانت تكررها وتبحث فيها عن منفذ أو مبرر لتفنيدها وانكارها..!
تختطف الحرب مساحة الخيال التي كنا نملكها في العالم الموازي الذي يزيل عنا الكثير من رتابة الحياة، لتصيبنا بصفعات واقع جفف حلوقنا رعبا وتوجساً من الغد، حتى الاساطير القديمة ووحوشها لم تسلم من لعنتها..
اكاد المح (أم الصبيان) تقف على ناصية الشارع، تدلل على بضاعتها من الملوج والخبز، تشيح بنظرها عن قمم العمارات حتى لا تستفز بنظرها مزاج قناص جماعة ما، (والعضروط أو طاوي الليل) يقف بعربية البطاط الساخن يهش الذباب عنها، مستسلما لبلطجة أفراد الميليشيا التي تحوم حوله..
لا أحد يستطيع إنكار تفوق وحشية الحروب على قصص الجدات والتراث القديم. فالوحوش القديمة تحلت لبعض الوقت بالقليل من لمحات إنسانية جعلت من الخير هو المنتصر في النهاية.
تعلمت تلك الميليشيات الكثير من قصص الجدات واختارت أن تكون أذكى من أبطال الاساطير، فلم يستسلموا للحظات ضعف أو إنسانية حتى لا يلقوا نهايتهم، متمسكين إلى آخر لحظة وبكل عناد ولا مبالاة بأرواح البشر: بأن تكون نهاية الجميع ملك لهم يرسمونها كيفما شاءوا..
في نهاية المطاف لا تستثني الحروب أحد، حين تمر على أرض ما، تنال من الجميع حتى تجارها والمستفيدين منها وأباطرتها لهم نصيبهم منها، لن يجدي معهم الرعب الذي غرسوه في القلوب بعد أن تعتاد عليه، ويصبح مسلسل متكرر لا جديد فيه..
سيكف صانعها عن النوم وهو يتذكر ما اقترفت يداه، وسيأتي دوره ليتخيل اللحظة التي سيدفع فيها الاستحقاق الواجب عليه نتيجة اشعاله واذكاءه لتلك الحرب..
قد يكون ذلك السبب الحقيقي لاستمرار الحرب: "أن تستمر بأن تكون قاتلا، أكثر أمانا لك من فتح باب تأويل آخر قد يصيبك بخيارات لست مستعداً لها"..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني