كنا نعتقد قبل أن تصقلنا الأيام بأن الحرب تختار الآباء لتغيبهم دون غيرهم، حتى صُفعنا بها وهي تنتزع الاطفال وتلتهمهم بشهية مضاعفة..
سنوات طويلة مرت علي منذ احتضاني لذلك الصغير وتلويحي معه لطائرة تعبر السماء، لعل الإنسان لا يخشى دائما المجهول، ينتظره مستجدياً القدر ليحط جواره..
بضعة أيام فقط كانت مرت عليه منذ استشهاد والده في منطقة لا تبتعد عن أوجاع اليوم، ولم يكن قد استوعب بعد فكرة مغادرته للأبد، سألني ببراءة بعينيه الذابلتين وهو يشير لزرقة السماء: " يسكن الله هناك ؟!"، هززت رأسي موافقة، فكيف لطفل في عمره أن يدرك مسكن الله في قلبه، تفاجأت به وقد أمسكت كفه الصغيرة بضعة أحجار وأخذ يلقي بها عالياً محاولاً اصابة "العنوان" الذي يظنه، وهو يصرخ: "لماذا أخذت والدي، أعده لي كيف أعيش بلا أب!" ..
نتجاهل الذكريات المؤلمة كي نواصل الحياة، لكن تلك الذكرى عادت لي وبقوة وأنا أرى صوراً لحملة تقودها ميليشيا الحوثي على مدارس الايتام لتلقيهم حطب في الجبهات يُذكي وقودها.. حطب لن يستنكر أحد قطعه أو القائه بديل عنها بين أودية وهضاب اليمن الباردة. لا أقسى من اليتم، سوى عجزك وأنت تحت سيطرة ميليشيا الحوثي..
للشر مستويات متعددة قد تقف بعضها حائلاً أمام بعض المجرمين، لكنا بلينا بمن يهوى الغوص في الحضيض اللا أخلاقي، لم يكتفوا بالسطو على الحاضر بل امتدت انيابهم لنزع المستقبل، وكأن مقايضتهم لذوي البعض بمقابل مادي وصكوك غفران، لم يكن مناسبا بالقدر الذي يشبع نهمهم للموت، فاكملوا صفقتهم بأرواح الأيتام ..!
لا بواكي لأطفال اليمن؛ أدار العالم ومنظماته الاممية ظهره عن المجازر التي ترتكب بحقهم، بينما تتحدث أروقته الباردة عن عنصرية واضطهاد يمارس ضد أقلية مهضوم حقها!..
الا تدرك حكومتنا الشرعية بأنها المعنية والمسؤولة الأولى عن إنقاذ صبية لا آباء لهم؟ إن افترضنا أن ذنب بقية الأطفال يقع على آبائهم، هل تصلهم صور الأيتام التي تطفح بها مواقع التواصل الاجتماعي ونشرات الاخبار وقد حملت على اكتافها النحيلة البنادق؟ أم إنها بانتظار صحوة ضمير ومكاشفة إنسانية من ميليشيا الحوثي!!..
لن تتوقف حمالة الحطب عن حملها، ولا نية لها لإطفاء نيران اليمن، فهل تعجز حكومتنا عن إنقاذ اطفالها، وتتوقف عن تعليق خيط بصرها للسماء املاً بعبور طائرة ما؟!
لا أطالبها بإلقاء الاحجار اعتراضاً على ما يلاقيه أولئك الصغار، طفولتهم ودماءهم البريئة هي من تناشدها الكف عن التلويح العاجز للقدر، والبدء بصناعته..
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني