لم يكن النهار قد انتصف، والشارع يسير بي وأنا على مقعد الباص الصغير في انتظار انتهاء محطته، حين توقف للحظات لتصعد عليه سيدة كبيرة في السن يبدو عليها الإرهاق وعلى جفنيها ظلال تعب يفوق الستين من العمر؛ قالت للسائق وهي تستقر في المقعد: "شميلة يا ابني".
الباص فارغ إلا منا، بادرتني بدهشة: "تجاوز جرام الذهب الـ....!!"، هززت رأسي، فقد كان آخر همي اليوم أن أعرف أسعار الذهب، لكن من الجيد معرفة وجود من يسأل عن سعره في هذه المدينة المعتمة...!!
قطعت تفكيري، قائلة: "إنه لحفيدي.. جمعنا له بقية الذهب الذي نملكه ليسافر للعمل في السعودية، لم يعد بمقدورنا دفع إيجار المنزل، ونخاف من انضمامه للجبهة".. واصلت حديثها وهي تسرد عليَّ حكايات من استجابوا لمثل تلك الإغراءات بعد انقطاع الرواتب وسبل العيش الكريم، وانضموا للبحث عن لقمة عيش...!
اومأت لها بالإيجاب: "من الجيد إبعاده عن طريق الموت".
فاجأتني برد سريع: "أخاف أن يقتل يمني آخر.."...!
من الطبيعي تفهم خوف تلك السيدة على دماء حفيدها وعودة اشلاءه وسط صندوق خشبي رخيص الثمن، لكن أن يكون مبعث قلقها والكابوس الذي يؤرقها ولم يأخذ منها وقتا في التفكير هو: "قتل يمني اخر"...! في حين ظننت أننا قد توقفنا عن التفكير في تلك المعضلة منذ فترة، وأصبحت طريقة الربح هي ما يشغل تفكير الجميع.
الانغماس في الدم يميت القلب ويطفى جميع أسئلته. حين تطول أمد الحروب تبقى الأجساد حية، لكن القلوب تموت وحينها لا تحتاج لمبررات واعذار مريحة؛ ينتقل المسدس ذو الطلقة الواحدة من جبين إلى آخر على طريقة الروليت الروسية، في مقامرة قد تبقيك خارج منطقة الخطر. وإن لم تكن اليوم مقتولا، ستكون غداً قاتلا..
غيرت الحرب حال جميع اليمنيين؛ انتزعت منهم البهجة ولم يستثنى أحد من ذلك. وبجانب خسارتهم لها فقد الكثير الحياة؛ الاطمئنان والامل أو المال؛ منهم من أجاد الارتقاء والوصول السريع، والبعض أثري بشكل فاحش لكنه ثراء خطايا لا أمان له، يسير به صاحبه على خيط رفيع من أعلى هاوية لا قرار لها.
شعرت وأنا أراقب تلك السيدة التي تنتقل من سوق لآخر، لبيع اخر ممتلكاتها، بأني أمام أكثر اليمنيين قوة؛ المرأة التي انتصرت منفردة على الحرب، ولم تستطع الأخيرة أن تسلبها شيء؛ تبحث بجهد في قاع حقيبتها عن أجرة الباص وهي تحمل عملة نادرة فقدها من وضع اليمن في هذا المستنقع، سواء كان قائدا مقاتلا، أو سياسي محنك، أو تاجر حرب مكتظة حساباته في البنوك والخزائن السرية؛ أنّى لهم أن يحضوا بأمل لم يلطخ، واطمئنان غريب بأن مكروها لن يصيبهم أو أحبتهم، وقلب يخشى على الآخر، أياً كان ذلك الآخر..
تمنيت أن يطول بنا الطريق، وأن لا يصل الباص لمنتهاه، لعلي أنال بعض مما تملك، لكن المحطة أطلت وافترقنا، رفعت رأسي لأجد السماء قد تخففت من بعض عتمتها بعد أن نقتها حروف تلك العابرة من بعض شوائبها.
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني