يعاني اليمني اليوم -والمرارة تسد حلقه - من وطأة أوهام سلالة تؤمن باصطفائها، يشير بأصابع الاتهام إليها لإدخال اليمن أتون حرب أخذ الجميع نصيبه منها، دون أن يملك أحد الشجاعة الكافية ليعترف باننا كنا سبب من أسباب بث الروح فيها.
لا تعاقب الحروب المجتمعات العادلة، تختار دائماً الأرض التي سلط القوي فيها استبداده وظلمه على الفئات الأضعف منه، وليس نشوب حرب اليمن بعيدا عن هذه الأسباب ..
تجاهُلُنَا، على مدى عقود طويلة، لعنصرية قاست منها بعض فئات المجتمع، هو اقل عقاب نستحقه وجزاء يتوجب علينا دفع ثمنه، وقد تحولنا الى متواطئين بقصد أو من دونه.. هذه هي الحقيقة الموجعة التي يجب أن نستوعبها.
حين يتربى اليمني في بلاد الغربة بعيد عن بعض الأعراف المتوارثة، لا يعرف معنى لتميز سلالة أو وشم لقبيلة يعلي من قدرها عن غيرها، يرى في أي وافد يمني ظلال جبل نقم وأنفة ردفان المهيب، ومذاق اللهجة اليمنية على مسامعه كنغم لأيوب طارش المعتق بعناقيد العنب.
تختلف تلك الصورة ما أن يقترب من الداخل وتفوح من بين حدودها عنصرية تخنق الأنفاس، تضيق به وهي تهمش وتفرق بين فئات المجتمع بتبريرات لا تستند لعقل أو منطق.. !
على سبيل المثال وليس الحصر: "ديانة" اليهودي جعلت منه (آخر) منبوذ مقصي في مجمعات صغيرة لحمايته من معاملة عنصرية وفوقية لا ينكرها أحد، تأصلت وتجذرت في العادات والتقاليد، وإن حاول البعض إنكار ذلك..
(وآخر) امتهنت عائلته عمل لا يرقى لمستوى "المواطنة الحقة".. !! دون أن يبرر لك أحد ما هي الشروط الواجبة لأي مهنة لتكون جديرة بالمساواة مع بقية المهن "الوطنية" !!..
حتى المحاصيل الزراعية لم تسلم هي الأخرى من التمييز.. ! فزراعتك لنوع معين من الخضار - التي لا تخلوا منها مائدة أي أسرة يمنية- قد يضع زارعها رهن العار في عين المجتمع، بأثر من الصعب أو المستحيل محوه..!!
اكثر ما يثير السخرية: تمايز جنس الذكر عن الانثى، أو "الخوف من ضعف الانثى حتى يثبت العكس".. !! رغم أن ذلك الاختلاف لم يناله ذكر قبيلة بقتال، ولم يحمل له غصن شجرة عائلة مقدسة، ما لم تكن حكايات الجدات هي من أضفت عليه الهالة اللازمة لتمريره، فكونك ذكر أو أنثى إرادة وصناعة إلهية بحته.
كل تلك المعتقدات وغيرها عنصرية تجاهلت الأصوات الفردية التي حاولت التصدي لها بأضعف إيمانها، قبل أن تتنحى سريعاً وتستسلم في انتظار حل الزمن في التغيير، أو في اندماج بعض الفئات المهمشة ببطء في نسيج المَدَنية، لتنجو من صدام مع من نصّبوا أنفسهم حماة على هذا الإرث الجاهل وهم يستنكرون: "هذا ما وجدنا عليه آباؤنا"..
قد تكون دراسة أسباب تلك العنصرية جزء من الحل، فالعودة إلى منبعها الحقيقي يقودنا مرة أخرى إلى تاريخ دخول السلالية أرض اليمن، السلالية التي ثبّتَتْ اقدامها وهي تصنع ذلك التقسيم والتهميش وتقتات على نتائجه، لكن ذلك لا يعفي المجتمع من استسلامه وتقبله لها.
بعض الأمراض المجتمعية لا تعالج على طريقة "داوها بالتي كانت هي الداء"، وظهور حركات قومية مستقطبة الكثير في ما يرونه تصدي للسلالية، مخصصة لأصحاب الدم اليمني النقي تنبش في المنابع والأصول، ليس سوى تدوير جديد للمشكلة..!
مثل هذه الحلول تقضي علينا شيئاً فشيئاً ونحن في غفلة من استكبارنا، فهي لا تختلف عن "السلالية" في المضمون، فالإقصاء أو "التهميش المقابل" تمادي في الغي، وعملية انتقام تستمر في تشطيرنا في دوامة لن تنتهي.. !
البحث الحقيقي عن مخرج هو الأجدر والاجدى في مثل هذا الوقت وهذه الظروف، وذلك بفرض وسن قوانين مواطنة رادعة مُجِرّمة لجميع أنواع التمييز والعنصرية بلا استثناء، يلتزم بمقتضاها كل يمني بواجباته، تحفظ له حقوقه وتصونها بقوة القانون أولاً وأخيراً.
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني