أهوى القفز والتأرجح بين سطور التاريخ، أقيد اللص المختبئ داخل نفسي بصعوبة بينما يلصق أنفاسه على زجاج المتاحف وينبش بين تراب المواقع الأثرية بحثاً عن قطعة فخار منسية من الماضي.
التاريخ العصا السحرية التي تنقلك لعالم يعيد الحياة لأجدادك، يزيح عن تماثيلهم وحروفهم المنحوتة غبار الزمن، ينفخ الروح في المدن والمعابد التي عمروها، عن طريقة عيشهم المدهشة ببساطتها وغموضها، اللهجة التي مازلنا نحمل جزء من لكنتها، اقف وسط احتفالية عودتهم البهية ابتسم لضحكتهم وهمس موسيقاهم تدعو قدماي للرقص.
أرتبط برائحة التراب بحبل شديد الوثاق، وأجزم ان الغوص فيه سيمنحنا نظرة لشفاء الحاضر والنهوض من كبوته لاستقراء غد افضل لأبناءنا.
قد يستخف البعض بهذه الاحجار القديمة ونقوشها التي تكاد أن تُطمَس وتُمّحى، ليست في نظرهم سوى خربشة مراهق غلبه الشغف فافرغ وجدانه على الجدران، وأن البحث بين اطلال التاريخ والبكاء عليه وقت الحروب مجرد ترف لا مكان له على مائدة الجنائز والمقابر المكتظة ومضيعة للوقت بحثاً عن وهم نصر او أمجاد بائدة..!!
ليست لدي الرغبة في استعادة ذلك الماضي، فليس كل ما مضى ناصع البياض، تحمل الكتب من الهزائم أضعاف ما دونته من معارك النصر، وقد يكون ارثنا من جينات السابقين سبب التناحر والتطاحن الذي نعيد تكراره، لكن ذلك الماضي بكل ما يحوي هو ميراثنا، بصمتنا على هذه الأرض منذ الآلاف السنين، ودليلنا الموثق بأحقيتنا لها.
وللأسف لم يسلم هذا الإرث من انتهاك جميع أطراف الحرب، مُدّت أياديهم بغِّل واراقت جزء لا يستهان به غير مبالية بكونها مخزن لإرث إنساني عالمي قبل أن يكون ميراث خاص لأرضنا وهويتنا.
اتذكر على سبيل المثال لا الحصر "سور مدينة براقش" في محافظة الجوف؛ "سور معبد أوعال" في صرواح، وهو المعبد الذي يعود تاريخ بنائه للقرن السابع قبل الميلاد في عهد الدولة السبئية؛ "قلعة صيرة" في عدن، و"جامع الجوهرة" التاريخي، و"المتحف الوطني"، و"دار الحسين" بالضالع في قرية دمت التاريخية التي يعود تاريخ قيامها لفترة عصور ما قبل الاسلام، "قصر السلاح" المقام على اطلال قصر غمدان.. لم تسلم جميعها –تقريبا- من نيران الحرب.
قائمة طويلة، لا تقتصر على المواقع الاثرية، بل امتدت للقطع الأثرية والمخطوطات القديمة، وحتى المكتبات الخاصة لم تسلم من النهب.
من الصعب حصر ما تم سرقته ونهبه خلال هذه الحرب، ولا يمكنني إنكار أن هذا المسلسل قديم، فتاريخ اليمن كان مشاع قبل اندلاع الحرب، وكثيرة هي القصص التي تم تداولها عن سرقة كنوز مقابر بأكملها. من كان منكم عاشق للمتاحف اليمنية سيؤكد تناقص أرث اجداده على مر السنوات، لكن ما يحدث الآن اقل ما يقال عنه بأنه مجزرة ومسلخ مفتوح للتاريخ!!.
نحن نعايش عصابات قد تبيع الهواء إن استطاعت تغليفه. عصابات بملكة إبداعية لا ينكرها الا جاهل في اكتشاف طرق مستحدثة للنهب، اختراعات جديدة في عالم اللصوصية، تفوقوا على الجميع في مجال الفيد ووضع اليد، وجعلوا عصابات المافيا تنتحب وهي تعيد حساباتها من جديد..!!
امتلكت تلك العصابة مفاتيح التاريخ على طبق من ذهب، فافتتحوا على شرف مجده سوق سوداء – كعادتهم- للقطع الاثرية اليمنية، مزادات علنية وقحة بأثمان بخسة، لا أعتقد بأن مرور الوقت سينسينا مخطوطة التوراة التي استقرت بكل وقاحة بين يدي رئيس وزراء اسرائيل في صفقة مشبوهة أمام أعين العالم..!!
يا سادة يا كرام: من أهمل ماضيه وتركه للنهب، سينهب منه حاضره ومستقبله.
لا تستطيع الشجرة التطلع إلى السماء أو الوقوف باستقامة، دون ثباتها، وتاريخنا الذي يُسرق ويُدمر كل يوم هو جذورنا التي تُقتص مع كل بناء أثري يهدم، أو وثيقة تاريخية تُسرب وتُباع.
وأكثر ما أخشاه أن يأتي علينا يوم لا نجد فيه ما نُثًّبِت به اقدامنا أو يسندنا.
اقراء أيضاً
في رفقة شبح ديمقراطي غربي
الرسام المجرم
"البالة".. تغريبة اليمني