القول أن الأميركيين في الشرق ليسوا قدراً، وأن هناك أحداثاً تسير دون قراراتهم صحيح تماماً، كما أن الصحيح أيضاً أن خطايا دول المنطقة، خاصة في رحلة نقض الربيع العربي، وخطايا الجماعات الدينية في التعامل مع رياح الحرية، كانت حماقات وأخطاء ذاتية وليست بالضرورة خططاً أميركية، لكن الغرب يعود لطبيعة سلوكه الاستراتيجي، لاستثمار هذه النكبات لمصالحه القومية الكبرى.
غير أن هذا التحوّل الجديد لسياسة ترامب، فيما يتعلق بجدول الجباية والسياسة الخارجية، التي يسعى لاستخدامها لأجل هذه الجباية، لا يمكن أبداً أن تكون في معزل عما أُعلن عنه، من أن مشروع فصل جنوب اليمن وطرد هادي والحكومة الشرعية أو حصارها في عدن.
هو بداية لما شدد عليه الطرف الإقليمي العربي الراعي، لتحويل الجنوب الجديد، كقاعدة دولية للمشروع الجديد لمكافحة الإرهاب، كأرض بلا سيادة سياسية محلية فعلية، فهذه مسألة لا يمكن أبداً أن تجري دون الراعي الدولي الحصري لهذه العناوين السياسية وأين؟ في الجزيرة العربية وبين مضيقي هرمز وعدن!
ولذلك ينبغي محاولة فهم ما الذي تراه واشنطن موافقاً لسياقها العام، في هذا المشروع وما الذي سيترتب عليه، قبل أن تنتهي حرب اليمن إلى حروب صغيرة، أو إلى صفقة كبرى يجري معها التفاوض سراً اليوم، وعلي صالح هو الشخصية العائدة من جديد في المشهد اليمني.
وما يهم في هذه المفاوضات، هو تصور الراعي الدولي لما بعد فصل الجنوب وكيف سيتعاطى مع الشمال، وكيف سيقول لحلفائه، ويبرر بأن هذا المخرج، سيُنهي الحرب وفصل الجنوب معاً، ويضمن معادلة أمنية، تعيد بسط سلطة علي صالح لتأمين الحدود.
ونريدُ أن نذكّر هنا بالمشاريع المتعددة، والمقترحات الكثيرة التي روجت لها واشنطن، لإقرار حروبها وتدخلاتها أو حروب الوكالة، ثم انتهت إلى سراب يضرب في أمن المنطقة ويُضعف بنيتها، وعليه فإن هذه الحقيبة أو تلك، التي يُروَّج لها لإقرار مشروع القاعدة الدولية الكبرى في جنوب اليمن، ليست في الحقيقة سوى تطمينات زائفة، وترقّب ما الذي تسعى لتأمينه بعد الانهيار الكبير، وضمان الموقع الاستراتيجي لها في الخليج العربي، وما تبقّى من نفطه.
ولا يُغيّر من ذلك دعم السفير الأميركي للرئيس هادي، فهذه مواسم دبلوماسية لا تُغير من مستقبل الحروب، وقد ترى واشنطن وتقنع حلفائها أن ترك صالح ليخوض حربا مزدوجة مع الحوثيين والإسلاميين السُنة، هو في حد ذاته، ضمانة لهم، لإنهاك ما تبقى من الشمال، وتركه يخوض في جهنم لعقود، وهو سيناريو حذرنا منه قديما، فمع بشاعته الإنسانية على الشعب العربي في اليمن، فهو لا يضمن سلما إقليميا أبداً، والشاهد موجود من العراق إلى سوريا، فالحروب تُشعل الإقليم وجواره في حالة الاستقرار، فكيف إذا كان الإقليم مضطرباً مذهبيا وسياسيا؟
أما الفكرة الأساسية للقاعدة الدولية الكبرى في تهيئة الجنوب، فهي تنطلق من شراكة استثمارية مع الراعي العربي، لمنطقة ما بين باب المندب وأم قصر شمال الخليج، تتحول مركزا أميركيا دائما، يرتب للواقع السياسي والصراعي مع إيران، أو الصفقة معها.
لكن الأهم لواشنطن، هو قدرة هذه القاعدة الدولية على التواجد، في زمن رسم الخرائط الجديدة وخاصة منطقة حقل الغوّار، فهي تعطيها جاهزية لهذا التحول الدراماتيكي في المنطقة عند الانهيار الكبير، وهذه الفكرة ستظل قائمة حتى لو سُحب مشروع الانفصال مرحلياً.
أمّا التفصيل في موقع القاعدة كجغرافية وأرض ديمغرافية لها، فهي مهمة شركات أمنية وبزنس، المقصود منها انشاء بنية خدمات في ميناء مستقر وجغرافية مرنة لمصالح القاعدة الدولية الكبرى، وبالتالي فالمشروع الأمني في تصفية هادي سياسياً، وأي قوات خارج مشروع القاعدة الدولية، هي مرتبطة بهذا المفهوم الاستراتيجي، الذي لا يُمكن أن يقرره طرف عربي دون رغبة واشنطن، بل خدمة لمصالحها العليا.
وهذا يجعل مسالة الجنّة التي توعد بها عدن على هامش القاعدة الدولية، ليست أحلاماً وردية بل تحدٍ كبير، خاصة في الحرب التي ستطلق من القاعدة الجهادية ضد القاعدة الدولية، والتوظيف المتصارع للجهادية الجديدة، فضلا عن هشاشة البنية السياسية في الجنوب وتناقضات الحركة الجامية المسلحة والقوى الماركسية القديمة، وما اختزنه الجنوب من مآسي وتعسف شمالي لعلي صالح، وما سبقه من ارث الماركسيين، ونزعات التفتت المختلفة.
ولا يُعتقد أن الأميركيين تَخفى عليهم هذه الانفجارات، لكن يبدو أن لديهم قناعة بتغييرات كبرى في المنطقة، وأن الذراع الإقليمي الوظيفي شبق بهذا الدور لتحقيق طموحه الذاتي، طموحات تُنفّذ على خرائط الدم العربي.
*الوطن القطرية
اقراء أيضاً
اليمن والخلاف الخليجي الجديد
عودة الرئيس علي عبد الله صالح
صورة السعودية الجديدة في المسرح الدولي