بدأ الجدل السياسي والعسكري حول فتح جبهة في الحدود الشمالية بين اليمن والسعودية، خاصة في صعدة، منذ اليوم الأول لعملية عاصفة الحزم، التي ينفذها التحالف العربي بقيادة المملكة السعودية، منذ 26 مارس/آذار 2015، وتوالت التوقعات حول دخول هذه المناطق في الحرب ضد الانقلاب، بالتزامن مع دخول جبهات أخرى لذات الهدف، ومع ذلك لم يحدث شيء، باستثناء محاولات محدودة بدأت في ديسمبر/تشرين الثاني 2015 مثل: محاولة الجيش الوطني الاستيلاء على منفذ حرض البري بين اليمن والسعودية، والسيطرة على ميناء ميدي، الواقع في الطرف الشمالي من الساحل اليمني على البحر الأحمر، وكليهما من مناطق محافظة حجة المجاورة لمحافظة صعدة.
تأخر معركة صعدة
يبدو أن تأخير الجيش الوطني عملياته في هذه الجبهة، نابع من مبررات عسكرية وسياسية، استراتيجية وتكتيكية، من بينها: أهمية البدء بتحرير المناطق التي يلاقي فيها الانقلاب الحوثي رفضا شعبيا معلنا، بما يقوي السلطة الشرعية من ممارسة أعمال السيادة عليها، واستدراج الميليشيا الحوثية والجيش المساند لها إلى هذه المناطق، لاستنزافهما وتحقيق حالة حرجة من الإنهاك فيهما، تمهيدا لدخول جبهات الشمال، ومنها جبهة صعدة، خط المواجهة، التي تهدف، جميعها، إلى إسقاط الانقلاب، وتحديد معالم الأقاليم، وصولا إلى مركز الدولة بالعاصمة صنعاء.
مؤكد أن قدرا من تلك الغايات قد تحققت؛ فقد جرفت وقائع الحرب عددا كبيرا من ميليشيا الحوثيين وقادتهم الميدانيين في المناطق الملتهبة؛ كتعز، والبيضاء، والجوف، ومارب، ونهم بصنعاء، فضلا عن ما خسروه أثناء تحرير محافظات الجنوب منهم، وقد زاد من فداحة خسائرهم، مقتل الكثير من مقاتليهم، الذين شاركوا في حروب صعدة الستة(2004- 2010) أثناء تمردهم على نظام الرئيس السابق، علي صالح، وكذا مقتل آخرين من مقاتلي النخبة من منتسبي الوحدات الخاصة في الجيش ووحدات الأمن الخاصة، الذين استقطبوا للقتال تحت قيادتهم، سواء في جبهات الداخل، أو جبهات المواجهة مع الجيش السعودي في الحدود الشمالية الغربية للبلاد.
على ذات الغاية، عملت الغارات الجوية لطيران التحالف، على استنزاف الكثير من القادة العسكريين، والسياسيين، والوجاهات الاجتماعية، من المنتمين للانقلاب أو المؤيدين له، إلا أن أغلبهم لم يكونوا من رجال الصف الأول. والشأن ذاته في ما حاق برجال الرئيس السابق، من قادة الجيش، والسياسيين، وزعماء القبائل، الذين قضوا بغارات طيران التحالف في الجبهات وفي بعض الغارات التي لا تزال تفاصيل بعضها مجهولة، كاستهداف صالة عزاء بصنعاء، في 8 أكتوبر/تشرين أول الجاري 2016، وهو الاستهداف الوحيد، الذي اعترف التحالف بمسئوليته تجاهه، الذي أسفر عن مقتل أزيد من مائة ضابط وقيادي حزبي وقبلي، ومئات الجرحى والمفقودين.
أهمية المعركة ومسرحها
مع بدء العمليات العسكرية في منطقة البقع بمديرية كتاف بصعدة، أوائل هذا الشهر، أكتوبر/تشرين أول 2016، يكون الجيش الوطني قد نفذ ثالث نشاط عسكري في الحدود الشمالية الغربية، بعد توقف عملياته في جبهتي حرض وميدي منذ بضعة أشهر، ولا شك أن لهذه المعركة أهمية خاصة بنظر طرفييها، بل إنها من أهم المعارك، التي يفترض أن يكون الطرفان قد استعدا لها، تخطيطا، وتمويلا، وتنفيذا، لكونها إحدى أهم المعارك في الحرب ضد الانقلاب، انطلاقا من ما تقدمه محافظة صعدة، بوصفها مسرح هذه المعركة، من إمكانيات استراتيجية وتكتيكية لطرف الحرب الذي سيحكم سيطرته عليها، أو على المناطق الهامة فيها.
إن مما توفره صعدة من أهمية، والعمليات العسكرية المرتبطة بذلك، أنها تستهدف ضرب المعقل الجغرافي، والأيديولوجي، والسياسي، والعسكري للحوثيين، والوكر الافتراضي لزعيمهم عبدالملك الحوثي، المطلوب الأول في قائمة أهداف الجيش الوطني والتحالف المساند له، وما تأكد من معلومات استخبارية حول قيادة النشاط العسكري لميليشيا الحوثيين، بواسطة مركز عمليات متقدم يقع في مكان محصن بصعدة، ويرتبط بآخر مثله في بيروت، يداران بواسطة ضباط ارتباط حوثيين وآخرين من حزب الله اللبناني، ووجود معسكرات تدريب تضطلع بإعداد عناصر المهام الخاصة، للدفع بهم إلى مختلف الجبهات، وقد عزز ذلك، عمليات الإغارة والكمناء والتخريب والهجمات بالصواريخ الباليستية القصيرة المدى على المدن السعودية القريبة من مناطق سيطرة الحوثيين، وعلى المناطق المحررة التي يسيطر عليها الجيش الوطني.
كما تأخذ هذه المعركة أهميتها من أهمية نتائجها التي ستكون منعطفا هاما وزاخرا بتحولات مختلفة؛ إذ أن الجيش الوطني، فيما لو تمكن من السيطرة على مركز محافظة صعدة، ومعسكرات الجيش، والطرق الرابطة بينها وبين محافظتي عمران والجوف، ومنفذ الطوال البري مع السعودية؛ فإنه سيكون المتحكم، كذلك، على بقية المديريات، ومن ثم التوغل فيها، وإتاحة المجال أمام تشكيلات أخرى من الجيش الوطني للسيطرة على المحافظات المجاورة، التي لن تكون استعادتها، حينئذ، إلا استثمارا للنصر الذي تحقق، وبأقل الخسائر البشرية والمادية؛ ذلك أنه ستحدث انهيارات عنيفة في صفوف ميليشيا الحوثيين والجيش المساند لهم في تلك المناطق، فتنتفض القبائل المعارضة لهم مؤيدة وداعمة الجيش الوطني.
في اتجاه وثيق الصلة، تبرز أهمية هذه المعركة لدى الطرف السعودي، الممول الرئيس للحرب، والمستفيد الأكبر من انتصار الجيش الوطني في هذه الجبهة تحديدا؛ إذ يمثل ذلك انتصارا للجيش السعودي نفسه؛ نظرا لتعرض مناطق من بلاده لكثير من الأعمال العدائية الحوثية التي زعزعت الأمن والاستقرار فيها بفعل تلك الأعمال، وما خلفته من تداعيات سلبية، مادية وبشرية ومعنوية، تراجعت معها ثقة المواطن السعودي بجيشه في حماية حدوده؛ لذلك يسعى هذا الطرف، وبكل ما أوتي قوة، لتمكين الجيش الوطني والمقاومة الشعبية المؤازرة له من السيطرة الكاملة والمحكمة على صعدة أو ، على الأقل، إيجاد منطقة عزل واسعة تؤمن المدن السعودية من أي نشاط عدائي حوثي.
تحديات وفرص وحلول
أهم ما يمكن تناوله في مسألة التحديات والفرص المحيطة بالمعركة، تلك الطبيعة الجغرافية المنهكة لمقاتلين حديثي العهد بها، خلافا للحوثيين الذين تمرسوا على ذلك خلال سنوات الحروب الستة، ويضاعف من تلك التحديات استعداد الحوثيين للمواجهة بمقاتلين عقديين تتجسد صعدة في أذهانهم كمدينة مقدسة ترخص أرواحهم في سبيلها، غير أن هذه التحديات يمكن التغلب عليها بجملة من الحلول الضرورية، من بينها: إعداد مقاتلين أشداء ينتمون لمناطق مختلفة من صعدة، ممن يؤمنون بعدالة هذه الحرب، وبحق العودة إلى منازلهم ومزارعهم المصادرة، والدفع بهم في طليعة قوات الجيش الوطني، وضمان وقوف القبائل إلى جانب هذه القوات ضمانة حقيقية، وهو نموذج مجرب دُرِج على الأخذ به في حروب كثيرة استعرت في هذه المناطق؛ كالحرب بين الجمهوريين والملكيين في ستينيات القرن الماضي، والحروب الستة التي تحملت قبيلتا حاشد وبكيل أعباء كثيرة منها، علاوة على تجريب ذلك في معارك الجوف وتعز وعدن وغيرها.
يمثل التدفق المستمر للصواريخ إلى صفوف ميليشيا الحوثيين تحديا وتهديدا أشد خطرا، إذ تشكل هذه الصواريخ داعما لأداء الأسلحة الأخرى في ضرب تجمعات الجيش الوطني في المناطق المستولى عليها في هذه الجبهة، لا سيما أن تشكيلاته لا تحوي منظومة دفاع جوي ضد الصواريخ، على نحو ما هو موجود بمارب؛ لذلك يثابر الحوثيون في سبيل الحصول على أنواع مختلفة من الصواريخ، لتكون بديلا للطيران الحربي الذي أقصي في اليوم الأول للحرب، وسيكون، من باب قياس أثر هذه الصواريخ، القول: إن آثراها الكارثية لن تكون أقل مما أحدثه صاروخ من نوع "توشكا" في معسكر بالقرب من مارب أوائل سبتمبر/أيلول 2015؛ حيث قتل أزيد من تسعين جندي من القوات الإماراتية، وكذا ما أحدثته صواريخ أخرى، بالسفينة الإماراتية "سويفت" قبالة الساحل اليمني في البحر الأحمر في مطلع أكتوبر/تشرين الثاني الجاري 2016.
تبرز التحصينات والموانع الهندسية وحقول الألغام، التي استحدثها الحوثيون، كتحدٍ آخر أمام تقدم الجيش الوطني، لكنها لا تعدو أن تكون مسألة فنية يسيرة الحل، لكنها تلعب دورا مؤثرا في إبطاء تقدمه ومنح الحوثيين وقتا كافيا لترتيب صفوفهم. وكتحدٍ آخر تقف مشكلة القيادة غير المتخصصة للجيش الوطني في هذه الجبهة، وعدم كفاية المقاتلين النوعيين وكفاية المقاتلين بوجه عام، الذين يفترض أن يكونوا ثلاثة أضعاف مقاتلي الحوثيين، وفقا لقواعد الهجوم الناجح، مع ما يثار من نقد حول قلة تمثيل صعدة في هذا الجيش، وقد سبق الإشارة إلى أهمية ذلك التمثيل سلفا.
في جانب الفرص المتاحة أمام الجيش الوطني، تبرز مسألة استغلال فجوة الثقة المتراجعة بين الحوثيين والجيش السابق المساند لهم، بعد الهجوم الذي تعرضت له صالة عزاء بصنعاء، ومقتل عدد من كبار قادة الوحدات العسكرية، الذين يميلون إلى الرئيس السابق؛ حيث بادر الحوثيون إلى جسر فجوة القيادة الناشئة عن مقتل أولئك، بإحلال قادة حوثيين وضباط موالين لهم؛ كإسناد مهمة قيادة وحدات عسكرية من قوات الاحتياط(الحرس الجمهوري سابقا) إلى عبدالخالق الحوثي، شقيق زعيم الحوثيين، لتبدو الخطوة عملا إقصائيا صريحا لرجال صالح، واحترازيا من أي خطوة تستهدف، مستقبلا، وجودهم في العاصمة، بالدفع بتشكيلات من تلك الوحدات للقتال إلى جانبهم بصعدة، وهنا يمكن الاستفادة من هذا الاحتقان، بتحييد أولئك المقاتلين وتعزيز قدرات الجيش الوطني هناك.
يظل العامل السياسي التحدي الأبرز أمام هذه المعركة؛ حيث تقف وراءه دول عظمى؛ كالولايات المتحدة، وبريطانيا، وروسيا؛ لتحقيق مصالح استراتيجية تبادلية مع تحالف الانقلاب. فمع تقدم الجيش الوطني بصعدة، تبرز محاولة إجهاض ذلك، على نحو ما اتبع في جبهة نهم بصنعاء؛ حيث طالب الإميريكيون والبريطانيون بوقف سريع وغير مشروط للعمليات العسكرية في اليمن قبل منتصف هذا الشهر، وقد جاء هذا التحرك عقب الإفراج عن إميريكيِّين كانا معتقلين لدى سلطة الانقلاب، مقابل السماح بعودة وفدهم المشارك في مفوضات الكويت، الذي تعذرت عودته جراء الحظر الجوي المفروض على مطار صنعاء.
وفي مؤشر آخر على وجود لعبة لم تتضح ملامحها بعد، يثير الإميريكيون، زوبعة تعرّض مدمرة تابعة لهم قبالة السواحل اليمنية في البحر الأحمر لصواريخ مصدرها المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين بمدينة الحُديدة، وأنهم بادروا بالرد على ذلك باستهداف رادارات بحرية، لكن المعلومات المتواترة حول تلك الرادارات تقول إنها خارجة عن الجاهزية، وهو ما لا يمكن أن تغفله دولة بقوة ونفوذ الولايات المتحدة، وما يؤكد، كذلك، أن وراء الأكمة ما وراءها.
* باحث يمني في الشئون الاستراتيجية
اقراء أيضاً
مفاوضات السلام اليمنية وتراجع الأجندات الخارجية
برلمان اليمن وحكومته: ضَعُفَ الطالب والمطلوب
"الانتقالي الجنوبي" ولعبة الإرهاب في أَبْيَن