دخل البرلمان والحكومة الشرعيَّان في اليمن مرحلة تصعيد سياسي جديد، هي الأقوى، منذ معاودة هذا البرلمان نشاطه عام 2019، بعد تغييب له أربع سنوات، ومبعث هذا التصعيد ما نُسب إلى الحكومة من مخالفاتٍ دستوريةٍ وقانونيةٍ، وتهمٍ بالفساد، تصدرَّتها وزارات الاتصالات، والكهرباء، والنفط.
والتحق بهذا التصعيد عضو مجلس القيادة الرئاسي، عثمان مُجلِّي، الذي طالب، عبر مذكّرة رسمية، رفعها إلى رئيس المجلس، رشاد العَلِيمي، بإحالة رئيس الحكومة، معين عبد الملك، والوزراء الذين وقَعوا في هذه المخالفات، إلى التحقيق، وفقًا لما ورد في مذكرة هيئة رئاسة مجلس النواب (البرلمان)، وتقرير لجنة برلمانية بهذا الخصوص.
ملخص المخالفات، أن الحكومة تجاهلت تدابير وخطوات دستورية وقانونية متعارفا عليها، عند التعامل مع اتفاقيات دولية بعينها، كضرورة الرجوع إلى مجلس النواب، حيث وافقت الحكومة على اتفاقيات تنتهك سيادة اليمن، وتلحق الضرر بمصالحه القومية، على مدى عقود، ومِن هذه الاتفاقيات بيع 70% من شركة عدن نت العامة للاتصالات، لشركة إماراتية، في ظل شكوكٍ عديدةٍ بشأن خلفيات هذه الصفقة، ونوايا طرفها الخارجي، ووكلائه الانفصاليين في الداخل.
يبدو أنَّ ما برز من تصعيد ليس إلا رأس جبل الجليد، وأنَّ ثمّة صراعًا نفعيًّا وراءه. لكن، وكالعادة يجري تغليفه بالنّواح والعويل على الدستور، وسيادة اليمن، ومصالحه القومية، إذ لا حول ولا قوة، في ذلك، للبرلمان والحكومة. وبالتأكيد، ليس هذا القول تبريرًا للحكومة التي اقترفت مخالفات قانونية ودستورية واضحة، فاللازم إيقافها عند حدودها، لكن الأمر يستدعي، ابتداءً، محاسبة البرلمان، ومجلس القيادة الرئاسي، الغائبين عن البلاد، ومن ثم محاسبة الحكومة، التي تعمل، وحيدةً، أو بالعدد الأكبر منها من داخل البلاد.
لم يعد خافيًا أن البرلمان، والحكومة، ومجلس القيادة الرئاسي، يمارسون إدارة الدولة بمنهج الفوضى، فلا يُلتفَت إلى القانون والدستور إلا في الاحتياجات البرتوكولية، وأنَّ ما يُثار من ضجيج بشأن انتهاك القانون والدستور، زوابعُ لا تلبثُ أن تزول. ففي ديسمبر/ كانون الأول 2022، وقَّع وزير الدفاع اليمني، مع وزير العدل الإماراتي، نيابة عن وزير الدولة لشؤون الدفاع في بلاده، اتفاقية أمنية وعسكرية، وذلك من دون الرجوع إلى البرلمان اليمني، الذي تعامل مع المسألة بجعجعة لافتة، سرعان ما ذهب طحينها أدراج الرياح.
وإذا ما أردنا أن نضع كل هؤلاء في ميزاني القانون والدستور، فإنه لا أثر لأي منهم. فالبرلمان الذي يريد محاسبة الحكومة منتهي الصلاحية في نظر القانون والدستور، ولا نِصاب لجلساته أو قراراته. وإذا ما قيل إنَّ شرعية بقائه فرضتها الحرب، فإنه، على الأقل، يجب أن يمارس وظائفه من داخل البلاد، وفقًا للمادة 66 من الدستور، وليس من خارجها كحالته حاليا، وحتى لا يقال: كيف لسلطةٍ تشريعيةٍ مغتربة خارج البلاد، تقوِّم وتحاسب سلطة تنفيذية تؤدّي وظائفها من داخل البلاد؟!
في سياق هذا كله، من المؤسف القول إن اليمن يُدار بإرادات خارجية، وهذه الإرادات لا تُمليها السعودية والإمارات فحسب، بوصفهما قائدتي التحالف العربي، بل إلى جانبهما، وربما في المقدّمة الولايات المتحدة، فضلًا عن الاتحاد الأوروبي، وفقًا للأجندات الخاصة بكل هؤلاء، وما فرضهُ وضعُ اليمن تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أمَّا ما تقوم به سلطات الدولة اليمنية من أدوار ووظائف، فيمثل المسموح لها بممارسته.
وفي السياق، ندركُ لماذا كانت هذه الدول وراء معظم المبادرات والاتفاقيات التي أخذت اليمن إلى الضياع، ومن أبرزها المبادرة الخليجية عام 2012، واتفاقية ستوكهولم بين الحكومة والحوثيين عام 2018، وأخيرًا ترتيبات إبريل/ نيسان 2023، في الرياض، التي نقلت السلطة، بطريقة انقلابية ناعمة، من الرئيس الشرعي، عبد ربه منصور هادي، إلى مجلس قيادة رئاسي، يضم زعماء مليشيات تتعارض اتجاهاتهم مع القيم والثوابت الوطنية، بما في ذلك الدستور والقانون والوحدة الوطنية.
إذن، المسألة أعمق وأعقد من خلاف على الاحتكام لضوابط قانونية ودستورية، فلولا حالة الفوضى التي فرضتها القوى الخارجية، لكان الامتثال للدستور والقانون في الحدود المقبولة، ولتراجعت المصالح الذاتية لشاغلي الوظائف العامة. ولعلَّ أجدَّ ما يمكن أن يُستشهدَ به، في هذا المقام، أن عودة رئيس الحكومة إلى عدن لم تكن لتحدُث لولا اشتراط الإمارات على توقيع الاتفاقية المشار إليها سابقًا، وأنَّ الوفاء بذلك مهَّد لعودة رئيس مجلس القيادة إلى عدن، بعد حرمانه منها عدة أشهر، وليس ذلك إلا جزءٌ يسيرٌ من مكاسب الحرب التي يجري تقاسمها بين مختلف أطرافها الداخلية والخارجية.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
مفاوضات السلام اليمنية وتراجع الأجندات الخارجية
"الانتقالي الجنوبي" ولعبة الإرهاب في أَبْيَن
موانئ اليمن والمواجهة الأميركية مع إيران