لطالما بدت لي مقولة :"الحياة قصيرة" بالغة التجني. على العكس دوماً، بدا لي الزمن شاسعاً، مهولاً، يكاد يلتهم اللا نهاية. يتعمّر المرء في المتوسط سبعين عاماً، وهذا رقم هائل، رقم فوق القدرة على الاحتمال حتى. من الافتراء احتساب العمر على هذا النحو، بأنه المدى الزمني منذ صرخة الميلاد إلى شهقة الموت.
العمر هو مجموع اللحظات المتوهجة في الذاكرة. ليس شرطاً أن تكون كلها لحظات سعيدة، فاللحظات الحزينة أيضاً، تلك التي تبلغ من العمق أن تبقى ساطعة في الذاكرة أبداً، مشبعة بألم واخز حد استدرار الدموع، لا تقل جماليةً عن اللحظات السعيدة. الزمن محايد في المحصلة، نهر نحن قطراته، وما يُحتسَب منه عمراً هو فقط ما عشناه بكامل حواسنا، بكل ذرة من كياننا. الزمن المشبع بالقهقهة أو بالدموع، ذاك هو العمر، وما عداه زمن هباء.
من هذا المنظور، لم أهاب الحرب يوماً، ولم أعتبرها شراً محضاً. لحظات الحرب من صميم أعمارنا. الحرب مليئة بالآلام، بالفقد، بالخوف، بالانتظار الساحق، وهي، بذلك، زمن مليء بالشعور، وإذن هي زمن من صميم العمر. في الحرب، من يجنح إلى الحياد، رغم صعوبة تحقيق ذلك بشكل مثالي، وحده يخرج من عمره، وحده يعيش في الزمن الهباء.
اللحظات التي تداعب الروح مثل أصابع تدغدغ، أو تنهال مثل أسواط تهوي، هي العمر، وما دونها زمن هباء.
يتجلى هذا المنظور في كل شيء، حتى في الكتابة، وفي الرواية على وجه الخصوص. كل ما هو متن، كل ما هو صميم، هو العمر، وكل "دَش"، كل جملة زائدة، هي هباء، دعوة للتثاؤب والنّوم.
هنا تجلّت مثلاً عبقرية الروائي والقاص المذهل ستيفان زفايغ، الرجل الذي لا تكاد تصطدم في إنتاجه الكتابي كله بجملة زائدة واحدة، وقد ذكر هو في كتابه "عالم الأمس"، وهو سيرته الفكرية، أنه لشدة ولعه بحذف الزوائد من كتاباته، كان حين يعود من مكتبه لينام، وتجده زوجته فرحاً متهللاً، كانت تعاجله: "بالتأكيد تمكنت الليلة من حذف الكثير من الفقرات".
العمر بطبيعته هكذا، يرفض الفراغ ويتأبى على الهوامش. العمر لا يعترف بالساعات والأيام والشهور الشاردة. العمر هو كل ما هو متن، كل ما هو ضحكة من صميم القلب، ودمعة صاعدة من قاع الروح، وما دون ذلك زمن هباء.
إلهي أسألك، وأسأل نفسي: كم عشت من عمرٍ، وكم من زمنٍ هباء؟!
اقراء أيضاً
خنجر قحطان
الاعتياد، كارثيّته وجماليّته
الطريق إلى الانفصال