توصلت العقلية الإسرائيلية بشأن إدارة حياة السكان في قطاع غزّة، إلى تشكيل روابط عشائر فلسطينية، بعد أن تضع الحرب أوزارها بالمفهوم الإسرائيلي، أي بعد التخلص من حركة حماس وقيادتها، والسيطرة التامة على كل أراضي القطاع، وتحرير الأسرى الإسرائيليين والمحتجزين لدى المقاومة من دون شروط. ويهدف الاستعجال الإسرائيلي في عقد جلسة حكومية لتقرير مصير القطاع قبل أن ينجلي غبار المعارك، ورغم الفشل الإسرائيلي البائن، في مناورة تفاوضية، إلى اصطياد أربعة عصافير بحجر واحد:
الأول، إثارة الفزع في نفوس رجال المقاومة، خشية من البديل الصناعي الذي تعدّه إسرائيل لمستقبل سكان القطاع، وفي ذلك إشارة إلى حتمية انتصار الجيش الإسرائيلي، وهزيمة رجال المقاومة، والغرض من هذه الفزاعة إعادتهم إلى مفاوضات التهدئة المحدودة بزمن، مقابل إطلاق سراح مجموعة من المحتجزين الإسرائيليين، وفق ما طرحت الورقة المصرية، وهذه التهدئة المؤقتة مرفوضة من التنظيمات الفلسطينية المقاومة، والتي اشترطت وقف إطلاق النار، والانسحاب الإسرائيلي، قبل أي حديث عن صفقة تبادل أسرى.
الثاني: يهدف إلى ترويع القيادة الفلسطينية في رام الله على مستقبلها الغامض، وتهديدها بتشكيل قيادات محلية في قطاع غزّة، موزعة على المناطق من الجنوب إلى الشمال، تضم مخاتير، وشخصيات معروفة مسبقاً للاحتلال، وربما بعض الوجوه السياسية المنتفعة، مع رجال أعمال طامعين بالربح السريع، وتحت ذريعة استقبال المساعدات الإنسانية، وتوزيعها على أفراد العائلات والعشائر بشكل عادل، بعيداً عن تدخّل التنظيمات الفلسطينية، على أن يشكل هؤلاء المخاتير والشخصيات رابطاً فيما بينهم يشبه لذي استوثقت به شخصياتٌ في الضفة الغربية قبل أكثر من 40 سنة، حين شكّلوا روابط القرى، تحت رعاية الاحتلال، وتلقت المساعدات المالية والعسكرية والإعلامية. ويثير النجاح الإسرائيلي في تشكيل روابط العشائر في قطاع غزّة الخوف لدى السلطة الفلسطينية من تطبيق التجربة على أرض الضفة الغربية، وهذا ما يقلق القيادة في رام الله، ويثير لديها الفزع على مستقبلها، لتبدأ بالاستجابة لمجمل الشروط الأمنية الإسرائيلية من دون تلكؤ.
الثالث: وضع الإدارة الأميركية أمام الحقائق الإسرائيلية، ولذلك جاء نقاش الحكومة فكرة تشكيل روابط العشائر الفلسطينية في قطاع غزّة في أعقاب زيارة وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، إلى الولايات المتحدة، وبعد لقائه مع وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، ومع مستشار الأمن القومي، جاك سوليفان، حيث تحدّث عن جهة فلسطينية تحكم غزّة من دون التوسّع في الموضوع الذي تناقشه الحكومة الإسرائيلية قبل يومين من زيارة بلينكن، وهو الذي طالب القيادة الإسرائيلية بعدم التورّط في احتلال قطاع غزّة، وعدم التورّط في إدارة شؤون السكان، وطالب القيادة الإسرائيلية بتحديد موقفها من اليوم التالي للحرب، وأوضح الرؤية الأميركية في هذا الشأن: مد نفوذ السلطة الفلسطينية إلى غزّة، بعد تجديدها لتتناسب والمرحلة الجديدة.
الرابع: توجيه رسالة إلى المجتمع الإسرائيلي عن نجاح الجيش، وقدرته على الانتصار والحسم الميداني، ومن ثم إقناع المجتمع بأن القيادة الإسرائيلية قد توافقت على تحديد أهداف الحرب، وأن الائتلاف الحاكم توافق حول طريقة إدارة المعركة، والتأكيد له بأن المعركة قد حسمت لصالح إسرائيل، ولا داعي للقلق على مستقبل الدولة، ولا مبرّر للمظاهرات التي تطالب بتحرير المحتجزين، ونهاية الحرب قبل أن تحقق أهدافها.
تدرك جيدا الحكومة الإسرائيلية التي عقدت جلستها لمناقشة اليوم التالي للحرب أن المعركة على أرض غزّة لم تحسم بالتصريحات الإسرائيلية، ولا بالتهديد بطول أمد الحرب. وتدرك أن كل يوم قتال يمرّ يحمل معه مستجدّات ومفاجآت لم تخطر على بال القيادة الإسرائيلية. وتدرك الحكومة، وهي تسحب عدة ألوية عسكرية من أرض المعركة، أن المستقبل يقرّره الرجال الأكثر إيماناً بحقهم، والأكثر استعداداً للتضحية، وأن الميدان هو صاحب القرار حول مستقبل غزّة، وحول مستقبل إسرائيل نفسها، سيما بعد اعتراف أكثر من مسؤول إسرائيلي، وفي مقدّمتهم وزير الدفاع غالانت، حين قال: إن الحرب على غزّة ستحدّد مصير دولة إسرائيل ومستقبلها في المنطقة.
وإذا كان الميدان هو المقرّر مستقبل غزّة، فإن الوقائع على الأرض تؤكد أن هذا الميدان لما يزل في قبضة رجال المقاومة، وفي مقدمتهم كتائب الشهيد عزّ الدين القسام، وحركة حماس التي لم تعد تنظيماً عسكرياً فقط، بل أضحت تنظيماً جماهيرياً، اجتاز بأفكاره وأفعاله حدود القطاع، واتسع مداه بعد معركة طوفان الأقصى، حتى وصل إلى كل شارع وحارة على مستوى الوطن العربي الكبير، وليس على مستوى أرض فلسطين فقط، فكل شباب الأمة العربية هم عشّاق لحركة حماس، التي عشقت مقاومة المحتلين وحلم الشباب العربي أن يشارك بكل ما يملك في المعارك في فلسطين.
ولعل المفاجأة التي ستربك المخطّطات الإسرائيلية في اليوم التالي للحرب أن لمعظم المخاتير والشخصيات المجتمعية والسياسية والتنظيمية والجماهيرية انتماءها الوطني، وتأبى كرامتها ومكانتها أن تكون جزءاً من المخطّط الإسرائيلي. ورغم المعاناة والجوع والبرد والنزوح والحاجة الماسّة إلى المساعدات، لدى الشعب الفلسطيني قناعة بأن المساعدات لا تعادل ذرّة كرامة وطنية، وأن التجويع والترويع أخفّ وطأة على النفس الفلسطينية من التعاون الأمني والسياسي مع العدو الإسرائيلي.
(العربي الجديد)
اقراء أيضاً
عندما يخرُج عليهم مقاومون من تحت القصف
لماذا يختار أهل قطاع غزّة الموت على الهجرة؟