رغم القصف الإسرائيلي المتواصل على رؤوس السكّان في قطاع غزّة، ورغم المجازر، ورغم الجوع الذي يطوف على البيوت، مع قلّة الماء، وقلة الدواء، يرفض الفلسطيني هنا، من حيث تنكتب هذه السطور في القطاع، أن يترك غزّة الجائعة المحاصرة، ويختار الموت تحت سقف بيته، ولا يستجيب لنداء آلاف المنشورات التي تلقيها الطائرات الإسرائيلية، وتدعو فيها السكّان إلى ترك بيوتهم، والتوجه إلى جنوب القطاع.
ورغم اختراق الجيش الإسرائيلي الإذاعات المحلية، وبثّه الرسائل المخيفة عن القادم في المعركة، وعن الجبروت الإسرائيلي، وعن ضرورة التوجّه إلى الجنوب، رغم ذلك كله، لا يزال الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة متمسّكاً بأرضه، يتمزّق تحت القصف، ويندفن تحت رُكام بيته، من دون أن يهاجر، أو يغادر، أو يترك تراب الوطن.
لقد جرّب الفلسطينيون الهجرة سنة 1948، وصدّقوا القيادات العربية في ذلك الوقت، وقد وعدتهم بالعودة إلى بيوتهم وأرضهم ومدنهم بعد أيامٍ معدودات من تصفية العصابات اليهودية. وصدّق الفلسطينيون، في تلك السنة من النكبة، أن القيادات العربية معنيّة بسلامتهم، وإبعادهم عن ساحات القتال. في تلك التجربة الأولى صدّق الفلسطينيون، وتركوا أرضهم، بياراتهم، وتركوا مدنهم بفنادقها وشوارعها ومؤسّساتها، بما في ذلك المصانع والمتاجر ودور السينما.
تركوا بيوتهم المكوّنة من عدة طوابق، وتركوا غلالهم وثمارهم وأشجارهم، ومصادر رزقهم، واستجابوا للدعاية التي طالبتهم بالابتعاد عن ساحات القتال مؤقتاً، لقد هاجر الفلسطينيون عن أرضهم، بملابسهم الشخصية، خرجوا بأنفسهم وأطفالهم سنة النكبة، وتركوا من خلفهم مقتنياتهم ومدّخراتهم، فالهجرة أياما معدودات، والعودة مضمونة، بوعد من الجيوش العربية.
وحتى سنة 2023، أي بعد مضي 75 سنة، والفلسطينيون يحلمون بالعودة، وفي قلوبهم نبض المحبّة لذلك المكان الذي عشق أنفاسهم. ما زال ملايين الفلسطينيين يمضغون الحسرة، ويلوكون الندم، بعد أن سكن بيوتَهم عدوهم، وصارت قراهم ومدنهم إسرائيلية، وتحمل بصمة عدوهم، بمصانعه، وطرقاتهم ومزارعهم وتجمعاتهم الاستيطانية.
تجربة الفلسطينيين الشخصية والسياسية تحثّهم اليوم على عدم ترك الأرض، والموت تحت ركام البيت أهون ألف مرّة من الحياة لاجئين، تحت خيام تقيمها الأمم المتحدة، لتقدّم لهم بعض المساعدات، ورغيف خبز، وبعض المعلبّات. إنها المفارقات العجيبة التي يهون أمامها الموت، فكيف يُمسي صاحب برج من عدّة طوابق لاجئاً في خيمة، وكيف يُمسي صاحب مصنع أو ورشة لاجئاً يفتّش عن فرصة عمل؟ وكيف يُمسي صاحب حمّامات زراعية يفتش عن مكانٍ على الرصيف بجوار مدرسة إيواء، وكيف يُمسي مواطنٌ آمنٌ مع أطفاله وأولاده لاجئاً، يفتّش عن مستقبلٍ دفنته الطائرات الإسرائيلية، ومسحه الصمت الدولي على جرائم الاحتلال؟
فكرة الهجرة من الأرض والبيت يرفضها الفلسطيني بقلبه وروحه. ولذلك يفضل الموت تحت القصف، والموت جوعاً، على الموت البطيء في الهجرة، وهذا ما جسّده أكثر من مليون فلسطيني يقيمون في شمال قطاع غزّة، فما زالوا منزرعين في بيوتهم، التي تقصف، ومع ذلك لا يخرجون. كما أن مئات آلاف اللاجئين القاطنين في المخيمات يرفضون العودة إلى تجربة الهجرة ثانية، فذاكرتهم وذاكرة آبائهم وأجدادهم تختزن مئات القصص الحزينة عن أيام الهجرة الأولى.
وإذا كانت الهجرة على مستوى الفرد مؤلمة ومرفوضة وقاتلة، فالهجرة على مستوى الوطن والقضية السياسية الفلسطينية أكثر رفضاً، وأكثر وجعاً، فالفلسطيني يعرف، بالتجربة، أن هجرته من بيته مقدّمة لغربته السياسية الجديدة، ونسيان قضيته، وإشغاله بالبحث عن مساعدات الأمم المتحدة.
كما أنه يعرف أن نجاح تهجير الفلسطينيين من شمال غزّة هو المقدمة لتهجير جنوبها في الأيام المقبلة. ويدرك الفلسطيني، بالتجربة، أن مطمع المتطرّفين الصهاينة ينصبّ على أرض الضفة الغربية. ولذلك، النجاح في تهجير سكّان غزّة يفتح الشهية العدوانية لتهجير سكّان الضفة الغربية.
الهجرة حربٌ مفتوحة على الوطن، فلسطين، إنها حرب البقاء رغم الموت والدمار. وإذا اضطرّ بعض الفلسطينيين الذين قُصفت بيوتهم، ودمّرت ممتلكاتهم، إلى مغادرة شمال غزّة، والتوجّه إلى الجنوب، فهؤلاء يعيشون لحظاتٍ من الحسرة والندم، تفوق الخيال، يبكون في كل لحظة أوضاعهم المُزرية، فمن قصرٍ في غزّة، أو شقّة في أحد الأبراج تطل على شاطئ البحر المتوسط، وجد نفسه يفترش الأرض، وينتظر مساعدات من وكالة الغوث (أونروا)، يبكي على مدار الوقت ندماً، وينتظر الفرصة ليعود إلى المكان المدمّر، فالموت تحت أنقاض البيت أرحم من الحياة في ظل الوهم.
صمد أكثر من مليون فلسطيني في شمال قطاع غزّة. صمدوا، وهم ينتظرون يد العون من العرب والعالم. ينتظرون المساعدة الإنسانية التي تمكّنهم من مواصلة الصمود. هم جاهزون للتعايش مع المجازر الإسرائيلية، جاهزون لتقديم كل يوم قافلة من الشهداء، ولكنهم بحاجة إلى رغيف الخبز، وشربة الماء، وجرعة دواء، سيما بعد أن تعمّد المحتل الإسرائيلي قصف خزّانات المياه والمستشفيات، وبعد أن تعمّد إشعال الحرائق بخزّانات الوقود، وبعد أن تعمّد قصف المخابز، ليحرم من اختار الصمود من مقوّمات العيش والصمود الحياتية والإنسانية.
ليس صمود الإنسان الفلسطيني فوق أرضه من مهمات المقاومة وحدها، إنه مهمّة الأمة العربية والإسلامية، فقطاع غزّة جاهز لمواجهة العدوّ. ولكن تعزيز صمود السكّان مهمّة الإنسان العربي على كل المستويات، مهمّة الحكومات والوزارات، فمعركة غزّة هي معركة كل العرب والمسلمين، وليست معركة كتائب عز الدين القسّام، ولا هي معركة رجال المقاومة الذين استعدّوا لملاقاة عدوهم عسكرياً، واثقين بحراك الجماهير العربية رفضاً للمجازر، ورفضاً للحصار.
لقد وثق رجال المقاومة الفلسطينية بأمتهم العربية والإسلامية، وبأنها لن تخذلهم، وستهبّ لنصرتهم إنسانياً، وهذه مهمّة ليست عسكرية، ولا هي معقّدة، مهمّة يقوم بها الشارع العربي، بمؤسّساته المدنية والمجتمعية، ونقاباته المهنية، ومنظمّات حقوق الإنسان، والمنظمّات الدولية، وكل من يستطيع الخروج إلى الشارع في مظاهرة اعتراضٍ على الإرهاب الإسرائيلي.
إنها مهمّة إنسانية، تستدعي مشاعر البشر. وقد حاكى الوجع الفلسطيني قلوبهم، رهبةً وخشية، رهبةً من مشهد المجازر التي يقترفها الاحتلال. وخشية أن يدور الزمن دورته، وتتعرّض المجتمعات الآمنة حالياً لمثل ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني في غزّة من ذبح على مرأى ومسمع من دول العالم.
*نقلا عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
عندما تبحث إسرائيل عن روابط العشائر
عندما يخرُج عليهم مقاومون من تحت القصف