بدأ الاحتلال الإسرائيلي شهرا ثالثا من عدوانه على قطاع غزّة، غير آبهٍ بكل الأصوات التي تطالب بوقف إطلاق النار ووقف المذبحة. لا يرى الاحتلال، بعد أكثر من 16 ألف شهيد ونحو 44 ألف جريح فلسطيني، أن هناك ما يستدعي وقف المجزرة، فالحليف الأقرب، أي الولايات المتحدة، يُبدي تسليماً تاماً بكل ما تريده إسرائيل.
وحتى بعض التصريحات التي يُطلقها مسؤولون أميركيون، من قبيل كامالا هاريس، تأخذ طابعاً أقلّ ما يمكن وصفه به بأنه تدليسي، وكأنها ليست أكثر من ذرّ للرماد في العيون، لدغدغة المشاعر في العالم العربي، أو حتى الناخبين الأميركيين المعارضين للعدوان على غزّة.
تحاول الإدارة الأميركية الإيحاء بأنها تطالب إسرائيل على مدار الساعة بحماية المدنيين، والمستشفيات، وإدارة آلة القتل، وإدخال المساعدات ... وبأن إسرائيل لا تلتفت إليها إلا في الحد الأدنى. لكن الأمر فعليا عكس ذلك. أميركا غير معنيّة بالضغط على إسرائيل على نحو تجبرها فيه على تبديل سياساتها. الضوء الأخضر الممنوح لها بلا أي خطوط حمراء، سواء تعلق الأمر بالقتل أو التدمير أو حتى التهجير الذي يقترب، أكثر من أي وقت مضى، بعدما باتت رفح نقطة النزوح الأخيرة داخل القطاع.
مائتا طائرة على متنها أكثر من عشرة آلاف طن من المعدّات العسكرية، بما في ذلك الأكثر فتكاً، وصلت إلى إسرائيل من الولايات المتحدة منذ 7 أكتوبر. مقابل ذلك، فإن الـ"لاءات" أو المبادئ التي تحدّث عنها بلينكن في طوكيو لم تصمد، "عدم تهجير الفلسطينيين قسرياً من غزّة، ليس اليوم وليس بعد الحرب، وعدم استخدام غزّة منصّة للإرهاب أو أي أعمال عنف أخرى، ولا إعادة احتلال غزّة بعد انتهاء الصراع، بالإضافة إلى إنهاء أي محاولة لحصار غزّة أو تقليص مساحة أراضي القطاع".
يمكن أن يلاحظ المتتبع للتصريحات الأميركية هذا التبدّل في اللهجة حتى لفظياً، من رفض التهجير والحصار وتقليص مساحة غزة إلى التسليم بما يريده الاحتلال مع تمديد رخصة القتل العشوائي، أقله حتى بداية العام المقبل، وهي مهلة كافية عسكرياً من وجهة نظر إسرائيل وأميركا، لاستكمال المراحل الأساسية من العدوان على مدى ثلاثة أشهر، قبل أن يدخل في مرحلة "أكثر انضباطاً" تراعي حسابات إدارة بايدن مع دخول السباق إلى البيت الأبيض لحظة حاسمة تتطلب تركيزاً. وبقدر ما تستبيح إسرائيل غزّة بقدر ما تحاول تكرار السيناريو نفسه في الضفّة الغربية والقدس المحتلتين. ففي خضم العدوان، جاء الإعلان عن تصديق السلطات الإسرائيلية على قرار بناء أول مستوطنة جديدة في القدس الشرقية منذ عام 2012، يقضم المزيد مما تبقى من شكلٍ مأمولٍ للدولة الفلسطينية.
لم يكن لهذا الاستفراد الأميركي والإسرائيلي بغزّة أولاً، والضفة والقدس ثانياً، أن يصل إلى هذا المدى، لولا حالة التخاذل العربي في مواجهة العدوان والضغط لوقفه على مدى شهرين. ثرثرة التصريحات التي تملأ الشاشات، والتي تدين الاحتلال وتطالب بوقف النار، لا تقدّم ولا تؤخّر، طالما أنها لم تقترن طيلة الأسابيع الماضية بأي تحرّك جادّ للضغط بهذا الاتجاه.
يراقب المسؤولون العرب أهالي غزّة وهم يُبادون يومياً، يقفون أمام الكاميرات يتحدّثون عن مدى هول ذلك، ورفضهم له، لكنهم عملياً ماذا هم فاعلون؟ فحتى القرار الذي اتّخذته الدول العربية والإسلامية مجتمعة بكسر الحصار لم يمتلكوا الجرأة على تنفيذه. عشرات آلاف النازحين في العراء على بعد كليومترات معدودة من معبر رفح الحدودي، ومثلهم في مناطق عدّة في القطاع، لكنهم محرومون من كل شيء بانتظار الموت.
(العربي الجديد)
اقراء أيضاً
مهزلة الرصيف العائم
المنظور الأميركي للمحكمة الجنائية الدولية
انتفاضة الجامعات الأميركية