بعد شهر ونصف الشهر من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، جرى الاتفاق أخيراً على هدنة. صحيحٌ أنها مؤقتة، لكن الأساس أن أيّ وقف لإطلاق النار، ولو أياما، هو حاجة ماسّة في القطاع، بغضّ النظر عن موعد دخوله حيز التنفيذ أو السجال بشأن من استطاع تحقيق أكبر قدر من الشروط التي طرحها.
إذا كانت آلة القتل الإسرائيلية ستتوقّف أياما، فهذا لا يعني أن الموت سيتوقّف عن ملاحقة أهالي غزّة. شهادات القاطنين في القطاع توصّف حجم الكارثة. ليس فقط جراء غياب أي منطقة آمنة أو مأوى لمئات الآلاف.
عملياً لم يعد من حياة في القطاع. رائحة الموت والدماء وآثار القصف تطغى على كل ما عداها. ويُدرك الأهالي أن هدنة مؤقتة ليست كافية، لا للبحث عن ذويهم المفقودين تحت الأنقاض أو الذين لا يزالون في الطرقات أو في باحات المستشفيات، لكنها على الأقل فرصةٌ لإمكانية العثور عليهم ودفنهم.
ويعي الغزّيون أن الهدنة لن تعيدهم إلى منازلهم، إن بقيت صامدة، في شمال القطاع خصوصاً، لكنها على الأقل تمنحهم بعض الوقت لمحاولة إيجاد مأوى أو خيمة أو حتى غطاء مع دخول فصل الشتاء وهطول الأمطار والتوقّعات بمعركة طويلة.
جل ما يتبقّى للأهالي يتمثل في الركون إلى الخيارات المتوفّرة، المرّة بطبيعة الحال. ولذلك كل يوم هدنة بمثابة فرصة إضافية لمحاولة البقاء على قيد الحياة. أما تحويلها إلى وقفٍ دائمٍ ومستدام للنار، فرغم حتمية هذا التوجّه، في نهاية المطاف، لكن من الواضح أنه غير متاح حالياً، على الأقل بحسب التطوّرات.
أطراف عدة تستعجل القفز على الوقائع الراهنة. يسلم بعضهم بأن الاحتلال سيكون قادراً على تحقيق كامل أهدافه في القطاع، وتحديداً في ما يتعلق بـ"القضاء" على حركة حماس، ويتعاطى حتى مع ما تسمّى بأفكار (أو طروحات) إدارة القطاع وكأنها ستحدُث لا محالة.
مع العلم أن تتبع تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم منذ بدء الحرب يظهر تبدّلاً في مقاربتهم معنى "القضاء" على الحركة. ولم يأت هذا الأمر من فراغ، بل أخْذاً بالاعتبار الوقائع الميدانية للمعركة وما يجري في شوارع القطاع.
وإذا كان المطلوب دائماً عدم تجاهل أو الاستخفاف بأي طرح إسرائيلي هنا أو هناك بشأن قطاع غزّة، خصوصاً ما يصدر عن غلاة المتطرّفين، فإن اعتباره أمراً مسلّماً به خطيئة. يخبرنا قادة الاحتلال يومياً أن المعركة طويلة، وهذا يعني أنه لا يمكن التنبّؤ بمجرياتها وبنتائجها النهائية.
ومثلما كان التعنّت على المستويين، الأمني والسياسي، في إسرائيل، في أوجه، رفضاً لصفقة تبادل المحتجزين، تغيّرت الأمور مع مرور شهر ونصف الشهر على العدوان. وما كان المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم يحاولون التهرّب منه اضطرّوا، في نهاية المطاف، للتعامل معه.
معرفة ما يمكن أن يحدُث في القطاع في الفترة المقبلة، سواء في ما يتعلق بوضع الفصائل على الأرض والمواجهة مع الاحتلال، أو ما يتعلق بالتصوّرات لإدارة غزّة، متروك للأيام والتطورات.
قضية التهجير التي بدت في خضم العدوان وجرائم الإبادة كأنها حتمية لم تتحقق، ولا مؤشّرات، أقله راهناً، أن في إمكان الاحتلال تطبيقها، رغم كل ما يُنشر عن مخطّطات لهذا السيناريو وما يتسرّب عن مغرياتٍ تُقدّم للقاهرة للقبول بالانخراط في هذا التصوّر. وهو ما قاد بعضهم إلى الانتقال من الحديث عن فكرة التهجير إلى تقليل الكثافة السكّانية للقطاع.
بطبيعة الحال، في حال نجحت إسرائيل في مخطّطاتها العسكرية، لن تتعثر في تطبيق ما تريده من سيناريوهات أو في إيجاد من يمدّ يده من الجانب الفلسطيني للتعاون معها في إدارة القطاع سياسياً وخدماتياً، خصوصاً أن الراعي الأميركي سيكون حاضراً لإضفاء "الشرعية" والدعم. وحتى اللحظة، لا يبدو أن ذلك سهل التحقّق.
(العربي الجديد)
اقراء أيضاً
مهزلة الرصيف العائم
المنظور الأميركي للمحكمة الجنائية الدولية
انتفاضة الجامعات الأميركية