نريد الديموقراطية فيحاربوننا، نمضي لانتزاع حقوقنا بالقوة فيزيدون حربهم لنا بطشاً. يتعامل معنا الغرب بمنطق القوي الذي يرى في ضعفنا وتخلفنا وانسحاقنا تحت بيادته الضامن الأهم لبقائه. الربيع الذي عبّرت فيه شعوبنا العربية عن رقيها الحضاري والإنساني والأخلاقي وعن وعيها بحقوقها وبقيم المواطنة، اختنق بمؤامرات الحكومات الغربية وبرعاية الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التابعة لها. مصر، ليبيا، اليمن، سوريا.. كل دول الربيع تهشمت أحلام شعوبها تحت مطارق قوى الغرب ونفوذه وإصراره على إذلالنا وإبقائنا في مؤخرة سرب الحضارة. وحين نأتي بعدها لنحاول انتزاع حقوقنا بالقوة وبمنطق السلاح فإنه ـ الغرب ـ يطلق مخالبه في أجسادنا مدندناً بالترانيم نفسها التي حارَبَنا تحت غطائها في مسيرتنا السلمية.
ربما على مر التاريخ لن نجد مقولة ظلّت مكرّسة، رغم أن الوقائع كلها تدحضها، بقدر مقولة إن الغرب راعٍ للديموقراطية وحقوق الإنسان. لم يكن الغرب سوى راع لمصالحه داهساً كل ما سواه. وإذا شئنا إعطاء الغرب صورة تجسيدية فسنراه دراكولا يهوي بسيفه ومخالبه ونواجذه على كل ما عداه، ولكن أيضاً وهو يردد قصائد شعرية تتغنى بقيم الخير والجمال، وعلى أنغام موسيقى دافئة تحرض على النوم.
الغرب ناطحة سحاب عملاقة، إسمنتية كئيبة، مزودة بالنظم الأمنية المنيعة، لكنها تخلو من القلب، من العاطفة والأخلاق وكل ما يمتّ للحس الإنساني. ورغم كونه مستفزاً أن يرى المرء من أبناء شعوبنا من أعماه بريق زجاج ناطحة السحاب العملاقة هذه وتعقيداتها التكنولوجية فإن هذا أيضاً مفهوم. أن غالبية البشر، هكذا على مر التاريخ، لا يتوفرون على العقل الكافي لإدراك الكذبات الكبيرة المتقنة، والقليل جداً هم الذين بوسعهم إدراكها وازدراءها ومحاربتها.
طوال الأيام الماضية، منذ السابع من أكتوبر المجيد، والغرب ينوح على "الضحايا الإسرائيليين"، ويهجو المقاومة الفلسطينية "الداعشية والمجرمة والإرهابية"، هكذا في دوغمائية تثير القيء. يطلقون سرديات يبدو فيها قتلى الاحتلال مجموعة من السياح السلميين انقضت عليهم مجاميع مسلحة أثناء قضائهم إجازتهم في شاطئ ما قصد الاستجمام. ليس اليهود محتلين من وجهة نظرهم ولا حماس جماعة مقاومة تدافع عن أرضها ونفسها. يغمضون أعينهم كلياً عن الضحايا الفلسطينيين وتغدو هذه الأعين تلسكوبات ضخمة حين يتعلق الأمر بالقتلى الإسرائيليين. فهؤلاء الأخيرين أبناء الله فيما الأوائل "حيوانات بشرية".
تقصف إسرائيل مستشفى المعمداني في غزة حاصدة زهاء ٥٠٠ شهيد وعدداً يقاربه من الجرحى، وفي الأثناء وفي اليوم التالي يستمر تواصل حكومات الغرب، على رأسها أمريكا، مع حكومة إسرائيل مؤكدين حق الأخيرة في الدفاع عن نفسها ومناقشين معها سبل دعمها لتبدأ معركتها البرية المزعومة. هذا هو الغرب، وهذه هي حضارته، وهذا هو فهمه الحقيقي لحقوق الإنسان.
الديموقراطية، حقوق الإنسان، لا جدال في أهمية هذين المفهومين وجدارتهما التحقق عالمياً، لكن بالوقت نفسه فإن إسنادهما إلى الغرب باعتباره راعيهما العالمي الرسمي لا يعدو أن يكون نكتة سمجة تفضحها أكداس لا نهائية من الوقائع.
لكل كذبة مداها، هذا ما يقوله التاريخ، وللزمان مساره الدائري المحتوم. ولا شك بأن هذه الكذبة المؤلمة ستتبدد بدورها تحت وطأة الزمن وحتمياته. لكن شعوبنا باقية رغم أنف الزمان، وستبقى غزة، ستبقى فلسطين وسيأتي النصر العظيم.
اقراء أيضاً
خنجر قحطان
الاعتياد، كارثيّته وجماليّته
الطريق إلى الانفصال